مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

العالم العربي وموت الأفكار الكبرى

لست متأكداً من صحة عنوان المقال على إطلاقه، ولكن يبدو أننا نقترب من نهاية الأفكار الكبرى الجامعة في العالم العربي.. أفكار على غرار القومية العربية أو الرؤية الإسلامية، أو حتى الأفكار الوطنية الملهمة باستثناء مقولات التنمية، ولا غرو. ولكن السؤال هو: لماذا انحسر إنتاج الأفكار الكبرى في جيل ما بعد القومية أو الإسلاموية؟ أو لماذا لم تخلّف الأفكار الكبرى القديمة أفكاراً حديثة، أم أنها حالة موت العقل العربي أو ضموره مجملاً؟
لا شك أن العالم العربي هو جزء من العالم الأكبر الذي انحسرت فيه المقولات الكبرى أو السرديات الكبرى (metanarratives) لصالح حالة التقطيع الفكري المتمثلة في رؤى ما بعد الحداثة، والتي شهدت أهم أمثلة عليها في انفجارٍ وتشظٍّ للهويات الكبرى لصالح هويات وطنية أصغر في البلقان، فرأينا تمزق يوغوسلافيا إلى صرب وكروات وبوسنة ورأينا تمزق تشيكوسلوفاكيا إلى تشيك وسلوفاك... إلى آخر قائمة التصدعات القومية التي بلغت ذروتها في حروب القبائل في أفريقيا (هوتسي وتوتو، وهاوسا ويوروبا وإيبو، وتيغراي وهويات أصغر في إثيوبيا وإريتريا والصومال والسودان)، ولكنّ حالة التشظي الأفريقية ليست حالة ما بعد حداثية بقدر ما هي حالة أقرب إلى ما تحدثت عنه جماعة «كليفورد جيرتنز» في علم الأنثروبولوجيا والمتمثلة في الحالة البرومارياليه أو صراعات الهويات البدائية (primordial).
العالم العربي ورغم صراعاته لم يتفكك إلى الهويات الأصغر إلا في حالة السودان (مسلمين عرباً مقابل أفارقة مسيحيين) أو في حالة العراق التي هي مزيج من الطائفية والإثنية (أكراداً وشيعة وسُنة)، أما الحالة اللبنانية فهي حالة خاصة إلى درجة ما.
ورغم هذا التفتت في العالم العربي لم نرَ إنتاج سرديات محلية تبحث عن هوية بديلة بشكلٍ متماسك مثلما رأينا في حالة يوغوسلافيا التي استطاعت المجموعات المختلفة فيها إنتاج سردية وطنية بديلة.
فهل نضبت الأفكار، حتى المحلية منها التي معها فقد الناس القدرة على إنتاج سرديات وطنية متماسكة؟ أياً كان البلد العربي الذي أنت فيه اليوم لا بد أن تسأل نفسك: ما الفكرة المتماسكة الجامعة التي تُلهب مشاعرنا؟ وهل هي قادرة على الاستمرار كأفكار قادرة على صناعة هويات وشرعيات بديلة؟
لا أدّعي أن لديّ إجابة حاسمة في هذا الأمر، ولكن ما يمكنني أن أدّعيه هو أن لدينا شذرات أفكار تبدو برّاقة ولكنها لا تصمد كثيراً أمام اختبار الزمن.
لا يستحي الفرد عندنا اليوم أن يقول إنني كتبت بوستاً حول هذا الموضوع أو كتبت تويتة، كأن البوست أو التويتة قد أصبحا بديلاً عن الأفكار التي تخبر بصرامة في حالة الكتب أو المقالات الأكاديمية الطويلة. سمعت أناساً حصلوا على درجة الدكتوراه وعندما تحدّث أحدهم عن فكرة يقول لك إنه كتب بوستاً على «فيسبوك» حول هذه الفكرة. لا أعرف أي ردة فعل يمكن أن يتبناها الإنسان ولو مفتعلة حتى يخفي امتعاضه من هذا الانحطاط الثقافي العام. كيف تقول للفرد إن البوست على «فيسبوك» لا يرقى إلى مستوى الأفكار دونما أن تخدش حياءه؟ وكيف تُقنع هؤلاء بألا يتصدوا لموضوع الكتابة، فالكتابة موضوع يحتاج إلى مخزون معرفي ينهل منه الكاتب وليست مجرد خواطر طارئة.
ظنّي أن موت الأفكار الكبرى على المستوى الإقليمي والوطني يعود إلى تسيّد فكرة المديوقراطية التي كتبت عنها هنا من قبل، أي عندما يتسيد المشهد الثقافي مَن ليست لديهم القدرة على التفريق بين الغثّ والسمين أو أفكار الدرجة الأولى (high culture) وثقافة الدرجة الثالثة أو الترسو، وما الحوار الدائر في مصر حول الأغنية إلا أحد تجليات سيطرة أفكار الترسو أو الدرجة الثالثة.
في تصوري أن هناك مجموعة عوامل أوصلتنا إلى حالة موت العقل العربي، على مستوياته المختلفة الكبرى والوطنية والأصغر، وأولها ثبوت البيئة التي تُنتج فيها الأفكار، والفاعلين المنوط بهم إنتاج الأفكار أو رعايتها، وانحياز الدولة إلى تافه الثقافة على حساب الثقافة العالية. وحتى تتغير هذه العناصر ومعها تتغير المحركات لن تكون لدينا أفكار ملهمة بل مجرد ومضات تختفي مع الوقت لغياب صرامة المعايير.
أمر آخر وأهم هو أن لدينا الآن مشروعات تتبنى التخلف وتحتضنه للدرجة التي معها يمكن القول إن بعض دولنا وبعض رجال الأعمال عندنا ينفقون على مشاريع التجهيل أكثر مما ينفقون على مشاريع التعليم.