إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عيناها

يعيد التلفزيون عرض أشهر فيلم لها «رصيف الضباب». المناسبة مرور خمس سنوات على رحيلها. وليس هناك في ليالي الشتاء الباردة ألطف من متابعة فيلم قديم من تحت اللحاف. كانت ميشيل مورغان دون العشرين من عمرها حين وقفت بطلة أمام «الوحش» جان غابان. لقد رآها تؤدي دوراً بسيطاً في واحد من أفلامها الأولى فاتصل بالمخرج وقال له: «هات لنا تلك الطفلة».
كانت في مقصورتها، ليلة التصوير، حين سمعت شجاراً بالصوت العالي بين غابان والممثل بيير براسور. تماسكا بالأيدي لأن براسور كان ثملاً ووصف الممثلة المبتدئة بكلمة بذيئة. في اليوم التالي وقف الممثلان أمام الكاميرا في مشهد يقتضي أن يوجه غابان صفعة «سينمائية» لزميله في الفيلم. لكنه انتهز الفرصة ورنّت في أرجاء الاستوديو صفعة حقيقية على خد براسور.
لم يكن ذلك أشهر ما في الفيلم. بل المشهد الذي تتواجه فيه ميشيل مورغان مع جان غابان رافعة وجهها نحوه في تضرّع. يتأملها وينطق الجملة التي ستغدو الأشهر في تاريخ السينما الفرنسية: «لك عينان جميلتان... أتعرفين؟». كان يفترض أن يعانقها عناقاً «سينمائياً» لكنها فوجئت بأنه ضمّها بشدة وقبّلها قبلة حقيقية.
عُرض الفيلم عام 1938 وكان كافياً لأن تبقى تلك العبارة تطارد الممثلة الشقراء حتى رحيلها عن 96 عاماً. كان المخرجون يركزون على عينيها في لقطات مُقربّة ويطلبون منها تلك النظرة الشاردة التي تبدو فيها وكأنها تتطلع إلى سماء بعيدة. حبسوا عينيها الصافيتين الشاسعتين في قالب ضاق عليهما. وفيما بعد قالت في إحدى مقابلاتها: «أرادوا مني نظرة فارغة. وتصوّر كثيرون أن رأسي فارغ أيضاً. ولاحقتني صفة الثلاجة المتنقلة». والعيون الزرق كانت على قفا مين يشيل في السينما الأوروبية. لكن مطولات كُتبت في عينيها بالذات. وأجمل ما قيل عبارة للناقد فرنسوا شاليه: «إن خلود نظرتها يجعلنا نشعر وكأن الوقت المنقضي لا ينقضي».
شكلت مورغان ثنائياً شهيراً مع غابان. قامت الحرب العالمية الثانية واحتل الألمان باريس. تطوّع هو للقتال في قوات فرنسا الحرة واغتنمت هي عقداً كانت قد وقعته مع شركة إنتاج في هوليوود. سافرت إلى أميركا ووقفت أمام النجم غاري كوبر. صارت لها نجمتها المطبوعة على رصيف المشاهير. تزوجت ممثلاً أميركياً وسيماً بعضلات بارزة منحها طفلاً وأسكنها منزلاً جميلاً (هو ذاته الذي ستقتل فيه الممثلة شارون تيت). أراد زوجها أن ينشأ ابنهما أميركياً خالصاً. أبعدها عن السينما وسخر من رغبتها في الرجوع إلى فرنسا والتمثيل في أفلام يعتبرها تافهة. ولما عادت إلى باريس لتصوير فيلم جديد أخذ منها الولد وحرمها من رؤيته. تلك كانت مأساة حياتها. ولعلها وجدت التعويض في حصولها على جائزة أفضل ممثلة في أولى دورات مهرجان «كان» عام 1946 عن فيلم «سيمفونية الرعاة».
تطلقت وجمعها فيلم جديد مع جان غابان. وكان هو قد تطلق أيضاً. عرفت أنها تحبه وهو يبادلها مشاعرها. كانت واقعية وأدركت أن التعايش مستحيل بين البركان وبحيرة الجليد. رحل غابان وواصلت مسيرتها لتجمع في رصيدها سبعين فيلماً. كان المخرج كلود لولوش يتمنى العمل معها وهو مَن منحها واحداً من آخر أدوارها على الشاشة في «القطة والفأر». وبعد ذلك تفرغت للرسم.
اقترنت ميشيل مورغان بالمخرج جيرار أوري وشاركته حياته طوال أربعين عاماً، هي في بيت وهو في بيت. آمنت أن الروتين يقتل الحب. وما لم يجمعه بيت الطاعة جمعته رخامة سوداء هي شاهد قبر مشترك في مقبرة مونبارناس في باريس.