حنا صالح
كاتب لبناني
TT

عن «لبنان» الشيخ نعيم قاسم!

قبل شهرٍ ونيف، وفي ذروة استهداف القاضي طارق البيطار، المحقق العدلي في جريمة تفجير المرفأ، والدعوة إلى «قبعه»، قال حسن نصر الله، إن حزبه يمتلك 100 ألف مقاتل، مضيفاً أنهم ضمانة «السلم الأهلي»! وقبل 10 أيام بشّر هاشم صفي الدين اللبنانيين عامة أنهم يعيشون «نعيم الانتصارات»! ولمن لا يعلم فصفي الدين هو رئيس المجلس التنفيذي لـ«حزب الله»، أي ما يعادل السلطة التنفيذية. ومنذ أيام أطلّ الشيخ نعيم قاسم، نائب نصر الله، ليعلن أن لبنان «أصبح له سمعة في العالم بسبب المقاومة وبسبب الانتصارات»، وليضيف «من أراد التحق به ومن لم يرد فليبحث عن حلٍ آخر»!
بعد 31 سنة على الانتهاء الرسمي للحرب الأهلية، هناك من يخبر اللبنانيين أن «الجيش» الموازي الذي أنشأه، «طعامه وشرابه وسلاحه ورواتبه من إيران»، مكرّس للحفاظ على السلم بين المواطنين! هل فعلاً هناك ثارات مفتوحة بين الناس، فيمنع هذا الجيش الجرار العودة إلى الاقتتال الأهلي، وإلى متى ستبقى الحاجة إلى كل هذا العسكر قبل أن يعمّ الاستقرار والأمان والسلم؟
وهناك من يريد الإقناع أن البلد يعيش نعيم الانتصارات، في حين المواطن في كلِّ جهات لبنان يعاني من فقدان حبة الدواء، ولا يطال الرغيف، ويتعرض للمذلة أمام المصرف والمستشفى، وتحاصره البطالة ويشد العوز خناقه، بعدما تجاوز معدل الفقر نسبة الـ82 في المائة من السكان، فكيف لا يرى المواطن بعيني صفي الدين؟
أما ما يثير العجب، فهو الحديث المدهش عن سمعة لبنان في العالم، كنتيجة لزمن الانتصارات! أي سمعة هي و«لبنان» الشيخ نعيم اختزل بكونه مخزن ذخيرة، يحتل مكانة متقدمة على قائمة البلدان الطاردة لأبنائها، والمصدرة لهم كلاجئين! وما نوع الانتصارات التي يتغنى بها، والكرامة المتأتية عنها، عندما يفضّل المئات ركوب «قوارب الموت»؛ هرباً من البؤس والعوز والموت من الجوع، وهو المصير الذي آل إليه لبنان المحكوم من نظام محاصصة طائفي غنائمي يقوده «حزب الله» وتحرس بنادقه الارتكابات؟
لكن تبقى الذروة في كل هذه الأحاديث، ما أفصح عنه الشيخ نعيم: إما تمشوا معنا أو فتشوا عن حلٍ آخر (...)؛ فتتضح الصورة وتبرز الأهداف الحقيقية من وراء التغول على الدولة، وتكريس البلد موقعاً متقدماً في مخططات طهران ومحطة اتجارٍ بالمخدرات، فتعوض تجارة الكبتاغون خسائر العقوبات الأميركية!
كان يُقال أن لبنان بلد التسويات، والمعنى الحقيقي لذلك أن النظام كما يُدار منتج للخلافات والأزمات، وكل تسوية تفجّر صراع مصالح وحقوق طوائف! عالجت التسويات صراعات من هم فوق، فتقدم «صغير» مجهول وجرى تحجيم من كان «كبيراً»، والمواطن في موقع المتفرج على التلاعب بالدستور، وفي موقع الشاهد على الحكم بالبدع وفرض التعايش القسري مع السلاح الميليشياوي! والأخطر تمثل بالترويج لمرجعية خارج الدولة ودستورها، يعود لها وحدها الحسم والفصل. في لحظة تنكر من التحالف المافياوي صار لبنان جائزة ترضية لنظام الأسد. وبعد حرب يوليو (تموز) تقدمت هيمنة طهران عبر «حزب الله» الذي قضم السلطة إثر احتلاله بيروت في العام 2008، وصولاً إلى «التسوية» معه في العام 2016، فاحتكر القرار السياسي بعد قرار السلم والحرب وبسط هيمنته على القرار الاقتصادي، وتحولت الحكومات إلى مجرد واجهات ركيكة تحكم بالاسم، لكنها في نهاية المطاف أعجز من أن تتمكن من تغطية ممارساته!
آخر الأدلة، أن حكومة ميقاتي التي تألفت قبل 96 يوماً، عقدت بعد إقرار بيانها الوزاري، وبعد الثقة النيابية، اجتماعاً يتيماً في 12 أكتوبر (تشرين الأول)، يوم حوّلها «حزب الله» إلى جثة ممنوع دفنها. عجزت عن تلبية مطلبه «قبع» القاضي البيطار، وطي التحقيق في التفجير الهيولي الذي رمّد ثلث بيروت، فمُنعت من الاجتماع منذ 65 يوماً! هي بحكم المستقيلة، في حين يواجه لبنان وأهله الأهوال، إن مع تجاوز سعر صرف الدولار الـ27 ألف ليرة وما سيترتب عليه من تداعيات، إلى أخطر قطيعة دبلوماسية بتاريخ لبنان. القطيعة مع دول الخليج التي تطورت إلى قطيعة اقتصادية مع السعودية، تسببت فيها سياسات مفروضة من «حزب الله» حولت البلد إلى موقع متقدم للتدخل العدواني، ومنصة إرساليات السموم التي تستهدف استقرار المجتمعات الخليجية!
السؤال كبير حول الرابط بين أبعاد إعلان نصر الله أن لديه 100 ألف مقاتل من جهة، وإنذار قاسم لكل الذين يرفضون مشروع «حزب الله» الهجرة (...) في وقت تزداد فيه الانهيارات المعيشية والاختناقات التي لم تعد منطقة بمنأى عنها أو «بيئة» لم تتأثر بها! فـ«حزب الله» هو الحاكم الفعلي، الممسك بمفاصل القرار والإدارة، وكان في قلب مخطط إضعاف قدرات البلد بنقل الثروة إلى الخارج، إن بترحيل المليارات أومن خلال التهريب الذي استنزف الودائع لتمويل الدويلة وميليشيات النظام السوري والكارتل الاحتكاري!
إنها «17 تشرين» الثورة العميقة التي أحدثت التغيير والإرباك في خطط «الحزب» ومن خلفه طهران. منذ اللحظة التي تحول فيها ناس البلد إلى لاعبين سياسيين وغادروا مقاعد المتفرجين، تبدلت أمور والأغلب أن سطوة السلاح تعرضت لاهتزاز. ولم يعد سهلاً تغطية حزب يحرس سلاحه منظومة فاسدة يتشارك معها النهب والإفقار والإذلال وانتهاك الكرامات، فتقدم وطنياً وشعبياً مطلب استعادة الدولة المخطوفة، ومعه مطلب حكومة مستقلة تنشل البلد، وتحاسب المرتكبين عبر القضاء المستقل؛ لأن المحاسبة ممر النهوض. وجاءت جريمة تفجير المرفأ لتعلن أن دم الأبرياء لا يسمو عليه موقع أو مقام أو حصانة، وأن العدالة لن تتأخر! وبالتالي سينتهي زمن «الإفلات من العقاب الذي لا يقل انحرافاً عن الظلم»، كما يقول أمين معلوف.
ما طرحته «17 تشرين» ترك أثراً عميقاً على مستوى الجامعات، ونجاحات لافتة في انتخابات النقابات المهنية، وحماساً كبيراً عكسه المغتربون لتصويت عقابي في الانتخابات المفترض أن موعدها الربيع المقبل. والأمر الشديد الأهمية تمثل في انتفاضة العدلية، فلم يعد الحديث يقتصر على القضاة صوان والعريضي وشجاعة البيطار، بل بما برز من عزم لدى القضاء على انتزاع استقلاليته بالممارسة؛ ما شكّل صفعة لمنظومة الحكم التي حجبت استقلالية هذه السلطة وسعت دوماً إلى تطويعها. إن في كل ذلك مؤشرات مقلقة للمتسلطين؛ لأنها تبشر بنهضة آتية تبلور إرادة جبهوية ترسم طريق خريطة الخلاص الوطني.
الوعيد والتهديد و«لبنان» الشيخ نعيم، يهدف إلى فرملة كل ما يمكن أن يؤدي إلى متغيرات لا يتحكم بها «حزب الله»، وتسقط لبنان التبعية. ولا بأس، لزوم المرحلة، من إكثار الرئيس بري الحديث عن الدستور لتغطية مخطط التهرب من الحقيقة في جريمة المرفأ، وتالياً حماية المافيا. فيكون الدفع أكثر إلى تعميق الفراغ بإطاحة كل الاستحقاقات الدستورية، والرهان هنا على رئاسة متهاوية متهالكة وراء مكاسب آنية هاجسها الأكبر التمديد أو التوريث ولو على الخراب والوجع لتربح جائزة أسوأ عهد مر على لبنان!