كفاح محمود
TT

الأقليات وعقدة الأغلبية!

لطالما استخدم السياسيون والباحثون مصطلح «مشكلة الأقليات» في البلدان ذات المكونات العرقية والقومية والدينية المختلفة، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، حيث برزت منذ بدايات القرن الماضي إشكاليات التعاطي معها، وكيفية إشراكها في الحكم، واحترام خصوصياتها، بعيداً عن الاحتواء والإذابة في الأغلبية. هذا الاستخدام والتداول الذي أثقل عبء تلك الأقليات أو المكونات، وأشعرها بوضع غير طبيعي في غياب بلورة مفهوم جامع للمواطنة، دونما الالتفات إلى أصل تلك الإشكالية الذي يكمن في عقدة الأغلبية لدى النخب الحاكمة عمودياً وليس أفقياً على مستوى الشعوب ومكوناتها، حيث تتكثف العقدة لدى الأغلبية وتصيبها بالتفرد واعتبار الآخرين مجرد ملحقات!
وفي العراق كنموذج لتلك الدول ذات المكونات المختلفة، حاول النظام الملكي في السنوات الأولى بما يتمتع به كأسرة تاريخية من مقبولية لدى معظم المكونات الكردية والتركمانية والكلدانية وبقية الطوائف الدينية، استثمار تلك المقبولية في محاولة بلورة مفهوم جامع للمواطنة، لكنه سرعان ما اصطدم بعوائق، سواء من لدن ضباط الجيش الذي تم تشكيله، وكان معظمهم من خريجي كليات الآستانة في حينها، أو من مندوبي بريطانيا التي كانت تتحفظ في حينها على تنشيط أو إعطاء أي دور مهم لتلك المكونات، رغم أن رئيس الوزراء ونستون تشرشل، أجاب الملك فيصل الأول الذي سأله عن حدود مملكته قائلاً:
«نحن لم نعطِكَ إمبراطورية لتحكمها، بل دولة عربية، حدودها جبال حمرين، وما بعد تلك الجبال بلاد أخرى تسمى كردستان»!
لكن هذا الكلام لم يترجم إلى واقع حال، لا في زمن تشرشل، ولا بعد قرن من الزمان، حينما أجرى الكرد استفتاءهم عن الاستقلال في سبتمبر (أيلول) 2017، مما يؤكد أن عقدة الأغلبية الحاكمة كانت نافذة محلياً ومقبولة عالمياً أيضاً بسبب الصراعات والتنافسات الدولية في المنطقة!
ورغم أن المُبشرين بالثورة الذين قادوا الانقلابات، وفي جُلهم من الجنرالات، ادعوا أنهم سيقيمون دولة المواطنة والشراكة بين تلك المكونات منذ 14 يوليو (تموز) 1958م، ومحاولة الزعيم عبد الكريم قاسم إشراك الكرد في الحكم بإقامة «جمهورية العرب والأكراد»، كما كان يسميها، إلا أنه هو الآخر وجد نفسه أسير رفاقه من النخبة الحاكمة المُصابة بزهو الأغلبية ونرجسيتها، التي أصبحت جزءاً من منظومة التفكير، وربما العقيدة السياسية للحكام طيلة أربعين عاماً من حكم الجمهوريات، رغم استخدامهم أنماطاً من الديمقراطيات (المركزية والشعبية والاشتراكية) وسيلةً لتداول السلطة في مجتمعات متخلفة ومختلفة الانتماءات والأعراق والأديان والمذاهب، إلا أنهم فشلوا في بلورة مفهوم يهمش عقدتي الأقلية والأغلبية لحساب المواطنة الجامعة.
في أبريل (نيسان) 2003، انتهت حقبة سياسية وصفها الفكر السياسي بأنها حقبة شمولية تميزت بحكم الفرد أو الحزب الواحد، وهيأت الأجواء والبيئة لبدء حقبة جديدة يفترض أنها تختلف تماماً عن سابقاتها، وما كانت تتميز بها من شكل النظام ومؤسساته، وطبيعة معالجاته لمسألة الأقلية والأغلبية في ظل دستور اتفق الجميع على صياغته ضمن هذه الأفكار النظرية، التي أثبتت أحداث ما يقرب من عشرين عاماً وأربع دورات برلمانية (الدورة أربع سنوات) أن واقع الحال يتقاطع بالمطلق مع تلك النظريات والقوانين التي طرحها الدستور، وبدأت عقدة الأغلبية تنمو من جديد على حساب تقزيم المكونات الأخرى باحتوائها وإذابتها في مؤسسات عسكرية خارج إطار المؤسسة العسكرية الرسمية، مما أتاح لها نشر أذرع ميليشياوية عقائدية مذهبية تنازع الدولة في وجودها، وتلغي أي مفهوم جامع للمواطنة إلا بما يتوافق وعقيدتها المذهبية والسياسية، ليس في العراق فحسب، بل في لبنان وسوريا واليمن أيضاً، حيث يتدافع إليها الإيرانيون لتغيير خريطة الطوائف والمكونات لصالح ما يسمى الأغلبية المذهبية هذه المرة!
إن إشكاليات البلدان متنوعة المكونات تكمن في عقدة الأغلبية لدى النخب الحاكمة التي أنتجت عقدة الأقليات، وفشلت في إنتاج مفهوم جامع للمواطنة يؤهلها لتطبيق نظام ديمقراطي صحيح، وما يجري في معظم دول الشرق الأوسط (الديمقراطية) لا يتجاوز استخدام وسائل وأدوات ديمقراطية لتكريس الحكم الشمولي للأغلبية المذهبية أو القومية.