مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

الشرق الأوسط والمطامع المتنافسة

قراءة تاريخ الشرق الأوسط ما زالت تنحصر في سياقه القديم، فليس هناك بالتالي انقطاع أساسي بين الضجيج الذي تبعه الكثير من التقلبات السياسية في دول المنطقة، وبين التوسع المستمر للهيكليات الإمبراطورية فالمراحل المتتالية أبعاد سياسية محضة، لذلك نجد صعوبة في قيمة التحولات التي طرأت عليه، وهذا يقتضي إعادة سرد الأحداث لما بعد تلك الحقب، بداية من النزاع العربي - الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، فلم تتوقف التوترات الإقليمية المتواصلة من فوضى وقمع، ومرحلة تشكلت من حركات المقاومة الفلسطينية المقيمة في لبنان، ومن ثم اندلعت أعمال العنف وأصبح لبنان رهينة اللاعبين الكبار على المسرح الشرق أوسطي، وكان الجيش السوري أول الداخلين إليه في بداية عام 1976 بمباركة الولايات المتحدة رغم معارضة الاتحاد السوفياتي الشديدة.
وبعد تفكك تلك الإمبراطوريات نمت السلالات ذات الأصل والهوى الإيراني بطموحات توسعية، حيث تم استصدار شرعية جديدة لإدخال النظام الجديد في إيران، وقد تكلل بتحالفات مع سوريا، ومن ثم خاضت إيران حربها مع العراق وعاثت فيه فساداً ومزقت أمنه واستقراره في عملية قمع لا هوادة فيها، فكانت الشعوب هي من تدفع الثمن، إذ دفنت شعورها بمدى أهمية الحياة اليومية ومدى أهمية الاستقرار. فضلاً عن ذلك بدأت الحركات الإسلامية في كل مكان بالتحرك، وأشير هنا إلى مشروع استبدادي سعى إلى هيمنة أقل ما يقال عنها إنها احتلال وانتهاكات لسيادة الدول العربية.
فمن الصعب أن يُنسى تاريخ أعلنته أميركا في عهد الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بعد احتلال العراق في 2003 وقُص الشريط لبداية التغيير في الدول التي اندلعت فيها الثورات بداية من 2010، تاريخ حمل بين صفحاته عنفاً امتدت جذوره عميقاً في تاريخ المنطقة، بإطلاق الصراع الطائفي والعرقي لتركيبة شعوب ودول منطقة الشرق الأوسط، يمكن تحديدها وهي لبنان الذي يدور في دوامة الصراع الطائفي والقومي والإثني بين مختلف مكوناته والذي دمر كيانه كدولة، كذلك الحال في السودان الذي نشأت فيه نوازع الانفصال على أساس ديني دولة في الشمال ودولة في الجنوب في ظروف تاريخية متقلبة، والصومال أيضاً ما زال يعيش دوامة النزاع القبلي والعرقي والديني بعد التدخل الأميركي عام 1991، كذلك اليمن وليبيا والعراق وسوريا.
فالمقاربة الإدراكية لحال المنطقة اليوم أمر معقد تحكمه مخلفات الماضي مع كل ما تجره معها من ويلات الحرب والفوضى والمطامع الإقليمية لتغرف من معين لا ينضب من حجج وسياسات متناقضة تقسم الرأي العام حولها، وسلسلة متوالية من الأعمال العدائية ما زالت تلوح في الأفق عبر الطرق الإيرانية انهارت على أثرها دولة لبنان من جديد وهي نتيجة فعلية لما ذكرناه من خلال حكومة يهيمن عليها (حزب الله) الموالي لإيران بتعطيل مؤسسات الدولة ووقوع لبنان في أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث فكانت الصدمة مزدوجة من خلاف الطوائف والقبول بتدخل ملالي طهران في تشكيل الوزراء والحكومة بشكل عام داخل الحدود اللبنانية وعزله عن محيطه العربي.
وفي اليمن تتجدد معاناة الشعب من إرهاب الحوثيين واعتداءات متكررة مصدرها وممولها إيران؛ غزو يزعزع بنية المجتمعات العربية وإرهاب بكل أشكاله يتلون بالأمور الآيديولوجية والدينية وصراعات على السياسة المحلية، وليس في الأفق ما يدل على أمل قريب سوى إدانة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لهجمات ميليشيات الحوثي الإرهابية التي تشنها من الأراضي اليمنية على السعودية، وقد يكون هذا اللقاء مع سفراء الدول الخمس في مجلس الأمن لدى اليمن يدعم جهود مبعوث الأمم المتحدة والحاجة إلى حل سياسي للأزمة اليمنية، ودعم الحكومة الشرعية، وإدانة السفارة الأميركية في الرياض للهجمات الحوثية على الأراضي السعودية، مؤكدة أنه «مع كل هجوم جديد يقدم الحوثيون أدلة جديدة على أنهم غير مهتمين بالسلام»، وكلنا أمل أن تحقق هذه الإدانة حلولاً للأزمة اليمنية.
لقد بات الشرق الأوسط الجديد موضع جدل لا ينتهي، فكثير من الأحداث يقتات عليها المتطرفون وخلفها سياسة قوى عظمى تخطط وتقسم، وبهذه التطورات انخفضت الآمال بالاستقرار، فاليوم ليبيا والسودان على المحك؛ اضطرابات مقلقة بالسودان ترفض الحكومة الجديدة واحتجاجات شعبية ومظاهرات مليونية وفئات متنوعة من مهنيين ضد مجلس السيادة الجديد الذي أعلنه قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان ودعوة بعودة الحكومة المدنية، وتحذيرات دولية من الانفلات الأمني بالبلاد.
أيضاً خلقوا في ليبيا توترات داخلية خطيرة في قلب المجتمعات المحلية وحركات عنف عانى منها الليبيون وما زالوا يعانون إلى يومنا هذا، فالذين يتربصون بالانتخابات، يحاولون إخراج العملية السياسية عن مسارها، وحركات من العنف والتوتر والرفض لأي تشكيل حكومي موحد حتى بدت البلاد غير قادرة على إيقاف التدخلات الخارجية، وفي غضون ذلك يوجد ضغط دولي في باريس لدعم الانتخابات في ليبيا، وستشارك نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، والعديد من قادة العالم في مؤتمر باريس، وفي مثل هذه الظروف من المتوقع أن يدفعوا باتجاه انتخابات تتمتع بالشفافية والمصداقية، كما سيحثون على انسحاب المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، كما ورد في اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بوساطة الأمم المتحدة العام الماضي، وإنهاء القتال بين الفصائل المتناحرة في البلاد.
في مقابل هذه المشاهد الصاخبة، هناك من يختبئ خلفها ويحمل إرثاً كبيراً من الحقد ظهرت تدخلاته في الدول العربية بداية من الثورات المعقدة إلى الفوضى الخلاقة، فالملتفون اليوم حول قضايا وحروب الشرق الأوسط صانعو القرار الغربيون يريدون إعادة ترتيبه وحل مشاكل إيران مع محيطها الإقليمي وذريعة أخرى وهي القضاء على الإرهاب ومناقشة الإصلاحات السياسية والاقتصادية في النقاط الساخنة، فهل نحن على اعتاب شرق أوسط جديد بعد السلام مع إسرائيل؟