إميل أمين
كاتب مصري
TT

«غلاسكو»... آيديولوجيا إيكولوجية شمولية

في مؤلفه الشهير «غداً من سيحكم العالم؟»، يتساءل الأكاديمي والمفكر الفرنسي الشهير جاك آتالي، عما سيؤول إليه حال العالم بعد حالة البلبلة والفوضى التي تسبق الانهيار العالمي، وهل ستظهر حكومة عالمية كونية تسوس شؤون البشر؟
آتالي يتوقع أننا سنشهد عودة الأمم والديكتاتوريات المنغلقة على أقاليمها؛ بادعاء حماية ثقافتها أو الطموح لحكم العالم، ومع هذا النوع من الطموح تظهر نوعيتان من الآيديولوجيات ذات احتمالية شمولية؛ آيديولوجيا البيئة، وآيديولوجيا التدين.
هل كان مؤتمر «غلاسكو»، أو «كوب 26» مقدمة لآيديولوجيا إيكولوجية شمولية من الدول الصناعية الكبرى، وأداة للسيطرة على مقدرات العالم النامي بنوع خاص؟
الحقيقة أن مسوّدة البيان الختامي التي طالعناها، والتي - غالب الظن - لن تتغير صورتها النهائية بشكل كبير، تفتح الباب للأسئلة بأكثر مما تروي الغليل بالإجابات، بل أكثر من ذلك، تجعل اليقين بالماورائيات أخطر بكثير من حديث الموجودات والمناقشات.
يكفي المرء أن يطالع ما ورد بشأن اتفاق بين الصين والولايات المتحدة لتعزيز التعاون المناخي، ذلك أن الصيغة تبدو كارثية، وتدعو للشك في أن قصة المؤتمر برمتها ليست إلا مدخلاً لتقسيم النفوذ العالمي بينهما من منطلق آيديولوجي شمولي.
فات الذين سطروا البيان أن الصين، وفي الأيام الأولى من أعمال قمة «غلاسكو»، زادت، وبشكل علني ورسمي، استخدامها من الكربون بنسبة تصل إلى 25 في المائة من معدل العام الماضي، ما يعني أن أحاديث مواجهة ومجابهة الاحتباس الحراري ليست سوى حرث في الماء، لا سيما أن لوبي الفحم الكربوني العامل في الولايات المتحدة لا يألو جهداً في السير عكس التيار، مستخدماً أدواته التقليدية في التحكُّم في أصوات أعضاء الكونغرس من شيوخ ونواب، عبر منح أو منع التبرعات السخية، التي من دونها لا طريق إلى إعادة تمويل حملاتهم وانتخابهم.
خلل ما بدا واضحاً في ثنايا «غلاسكو»، حيث رصد المرء أن علماء المناخ جاءوا في الصف الثاني ضمن وفود بلادهم، فيما السياسيون والمصرفيون تقدموا الصفوف، الأمر الذي جعل الأصوات المشككة تتعالى متسائلة عما إذا كان القصد هو استنقاذ الكرة الأرضية من الاحتباس الحراري، أم بالفعل محاولة رسم خريطة اقتصادية لعالم ما بعد «بريتون وودز»، بآلياته التي تقادمت، وفي مقدمها «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي».
المتابعة المعمقة لحوارات «غلاسكو» تجعل المرء يعيد قراءة مشهد الاحتباس الحراري، وهل الإنسانية بالمطلق السبب وراءه، أم أن الجيوفيزيائي الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش (1879 - 1958) كان على حق، حين أشار قبل سبعة عقود تقريباً إلى أن ارتفاع حرارة الأرض سببه تغير مدار الأرض، وانحراف ميلها، وتقدم الاعتدالين، وبقية التفسيرات الفيزيائية الخاصة بجيولوجيا الهندسة الشمسية.
بدا للمرء وكأن الهدف الرئيسي من القمة قطع الطريق على الطاقة الأحفورية، رغم أن جميع البيانات وخاصة بيانات «أوبك» تؤكد استمرار الطلب وتزايده حتى 2040، ومن غير أن تقدم جميع أحاديث الطاقة الأخرى بديلاً مقبولاً أو معقولاً، الأمر الذي يطرح قضية التلاعب بأسواق الطاقة على الصعيد العالمي، ومن يريد لسوقها القديمة التراجع إلى حد الاختباء ثم الاختفاء، ومن ثم ظهور بدائل كثر الحديث عنها، وفشلت في مواجهة تبعات جائحة «كوفيد - 19»، الأمر الذي تسبب في موجة تضخم وارتفاع أسعار قائمة ومقبلة.
استهداف الطاقة في صورتها الحالية أمر غير مبرر عقلاً أو عدلاً، وهو أمر تصدت له دول عدة، في قمتها ألمانيا، تلك التي رفضت بيان إنهاء بيع السيارات العاملة بالمحروقات، الذي أعلنت عنه بعض من الدول وشركات كبرى لتصنيع السيارات، وعدد واضح من المستثمرين، الذين يعتزمون تحديد موعد لإنهاء بيع السيارات التي تدار بالبنزين والديزل، وتصنيع مركبات خالية من الانبعاثات عام 2040.
الموقف الألماني المتقدم يقطع بأن هناك خللاً ما في توجهات الكبار الذين يسعون علناً لتبريد الكوكب، ومن غير أدنى توازن بين متطلبات التنمية المستدامة لكثير من الأمم والشعوب حول قارات الأرض الست.
أحسن كثيراً جداً وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، حين أشار في كلمته التي ألقاها خلال فعاليات المؤتمر، إلى أن الجهود الدولية لمكافحة تغير المناخ يجب ألا تقوض أمن الطاقة العالمي، أو تتجنب أي مصدر معين للطاقة، وأنه من الحتمي أن نقر بتنوع الحلول المناخية وأهمية خفض الانبعاثات، حسب المنصوص عليه في «اتفاق باريس»، من دون أي انحياز، مع أو ضد أي مصدر للطاقة.
ولعل غياب الرئيسين الروسي والصيني عن فعاليات «غلاسكو»، يلفت الانتباه إلى رفض مبطن للتوجهات الغربية المغالى فيها تجاه مسارات ومساقات الطاقة العالمية، لا سيما أن الذين يرفعون اللافتات الفاقعة، ويصيحون بأصوات زاعقة، ويذرفون العبرات الثخينة على الراحل، كوكب الأرض، هم الذين، وعلى جانب آخر، يتسارعون في سباق أقل ما يوصف بالجنون تجاه الإحياء النووي، وتتفتق أذهانهم عن عالم الصواريخ المجنحة، والغواصات الكهرومغناطيسية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يتلاعبون بمقدّرات الصناديق السيادية للنفط، التي تتجاوز بضعة تريليونات من الدولارات، ودفعها في دروب صناعات طاقوية أخرى، إن جاز التعبير.
الازدواجية الأخلاقية المعتادة من الدوائر الغربية تابعها العالم النامي، من خلال الإشارة في البيان الختامي إلى الحاجة لتخصيص 100 مليار دولار سنوياً للمعذبين في الأرض، وهو التعهُّد عينه الذي صدر منذ عشر سنوات ولم يبارح موضع وموقع الكلام، فيما مسودة «غلاسكو» لم تحتوِ على أي تفاصيل، وغالب الأمر لن تحتوي.
الخلاصة... الكبار في «غلاسكو» ذهبوا لتأمين مصالحهم وتغيير شكل العالم والهيمنة عليه من خلال أدلجة إيكولوجية شمولية... مرحباً بكم في عالم توتاليتاري معاصر تحت غطاء التدهور المناخي.