زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

بغداد وبيروت... أوجه التشابه والشعور الوطني

القراءة الموضوعية للحالة العراقية واللبنانية تقودنا لنتيجة واحدة تتمثل في أن المتهم واحد وتمت إدانته. تأمّلْ الملامح والمشاهد والسيناريوهات والإعداد والإخراج، فتجد أوجه التشابه على الصعد كافة بين البلدين المرتهنين لسلطة خارجية، وهي المعنية بالإشراف والسياسات، بدليل أن المخرج الذي يدير المشهد في البلدين هو واحد وبالاسم ذاته. لم يعد سراً أن من استهدف منزل رئيس الوزراء العراقي هي ميليشيات محسوبة على إيران؛ فكتائب «حزب الله» و«عصائب أهل الحق» بالمناسبة سبق أن هددتا الكاظمي قبل الاعتداء بأيام، ولكن هذه ليست المسألة المثارة هنا رغم خطورتها؛ فالأهم هو تشريح أداء ومنهجية دولة تمارس الإرهاب علناً عن طريق أتباعها وأذرعتها المؤدلجة. هناك شرائح كبيرة في لبنان والعراق تضع مصالحها الفئوية والشخصية والحزبية والآيديولوجية في المقام الأول على حساب المصلحة الوطنية. ذكرت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في مذكراتها قصة تستحق التأمل. تقول، إنها عندما أخبرت نوري المالكي، وكان رئيساً للوزراء، بامتعاض العرب السنّة من استبعاده أبناءهم من الانخراط في الجيش والمؤسسات الأمنية، فأجابها «أنا لا أطيق العرب ولا أثق بهم». هذا مثال حي تعيشه بعض الدول العربية وتفضح النفَس الطائفي الذي يعشش في عقول القيادات المحسوبة على طهران. ليس سراً في أن الذي يستفيد من هكذا منحى هي إيران التي استطاعت أن تضع قدمها هناك بعد خروج القوات الأميركية. طهران تردد دائماً وباستعلاء مقيت، أنها تسيطر على أربع عواصم عربية.
الوضع الإقليمي يتسم بدرجة كبيرة من السيولة السياسية وتسارع المتغيرات، وبالتالي لا يمكن النظر إلى ما يحدث في العراق ولبنان بمعزل عن التدخلات الإقليمية وتفاعلاتها. غياب الاستراتيجية العربية ساهم في حدوث انشقاقات وشروخ في الكيانات العربية، ما وفر الفرص للقوى الإقليمية في المنطقة من صناعة عمق استراتيجي لها؛ فإيران وإسرائيل، تعمل كل منهما وفق أجندتها وعبر الضغط في مناطق عربية مجاورة لها أو من خلال تعميق الخلافات العربية - العربية.
في فترة ماضية ليست بالبعيدة تحركت قوى شعبية وطنية في العراق ولبنان ساعية لإعادة بلديهما وإنقاذه من الخطف الإقليمي. لغتهم كانت تقول لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، ولا يمكن السكوت عما يحدث؛ فالتراكمات كبيرة والمعاناة أكبر والأنظمة السياسية الحاكمة والأحزاب والقيادات نخرها الفساد والمحسوبية والخضوع لإرادة الخارج. الظرف ودقة المرحلة آنذاك دفعت غالبية العراقيين واللبنانيين في أن يُغلّبوا مصلحة وطنيهما على المصالح الفئوية، وأن يكون قرارهما مستقلاً؛ ما يعني الانفكاك من فلك الإسار الإيراني وتغيير اتجاه البوصلة باتجاه العرب. ورغم المحاولات الجادة لهم حينذاك، فإن المظاهرات أُجهضت بقصد خلق حالة من الإحباط، وبالتالي فقدان الأمل والقبول بالواقع المرير. ثمة نشاط كان للمحور الفاعل داخل هذين البلدين، فعلى سبيل المثال أطراف وأشخاص داخل العراق ولبنان لا يميلون للتقارب على سبيل المثال مع دول الخليج ولا يحبذونه، وعادة ما يضعون العراقيل لتعطيله؛ كونهم يعتقدون أن هذا التقارب يمثل تهديداً للمصالح الإيرانية؛ ولذا هي ترهن قرار بلادها للخارج.
الصورة تتشكل في البلدين ووجه التشابه ما بين بغداد وبيروت يقترب إلى التطابق يوماً تلو آخر، والمشهد يعكس نفسه والمطالب ذات المطالب. معاناة العراق ولبنان ظاهرة للعيان، ومنذ زمن وهي عنوان كبير لما يدور في عالمنا العربي. التوترات الطائفية وقضايا التجزئة والانفصال وفشل المشروع التنموي والتدهور الاقتصادي والتبعية السياسية.
الشعب اللبناني نزل للشارع آنذاك منادياً برحيل الزعامات السياسية والحكومات، وطالب بالعمل المؤسساتي بأن يصار إلى إلغاء سياسة الإقصاء الطائفي وعدم السماح لإيران بالهيمنة على القرار السياسي، وترسيخ نظام سياسي غير طائفي وإلغاء الميليشيات، وأن يكون السلاح تحت سلطة الدولة، وفي العراق كانت نتائج الانتخابات صفعة قوية لإيران وميليشياتها، ناهيك عن الانقسام الشيعي الذي سيكون له ما بعده. اليوم، يبدو أن المشهد يتكرر ويتصاعد، بدليل أن الغلطة التي ارتكبتها ميليشيات إيران باستهدافها السيد الكاظمي أعادته للمشهد وبقوة وبات رقماً صعباً داخل العراق وخارجه. ويبدو أنه سيكون رجل المرحلة والشخصية السياسية القادمة التي سوف تلعب دوراً مفصلياً في العراق الجديد، وهي نقطة فاصلة في تاريخ العراق تذكرنا بمرحلة الراحل رفيق الحريري اللافتة في لبنان.
التدخل الإيراني في شؤون الدول الأخرى هدفه تحقيق السيطرة والهيمنة عبر دعم العناصر والعملاء والحركات مادياً وعسكرياً وإعلامياً، وما زالت طهران تكرس تلك السياسة الطائفية التي باتت مرفوضة علناً من غالبية الشعبين اللبناني والعراقي اللذين يريدان حياة كريمة والعودة إلى الحضن العربي والتخلص من الرموز والشخوص وكل الطبقات الحاكمة التابعة لطهران. إيران بدأت تفقد مساحاتها وتراجع حضورها وشعبيتها. لا بد من أن تُطوى صفحة وتُفتح صفحة جديدة في لبنان والعراق والشعوب قالت كلمتها ومنسوب الوطنية ارتفع فتجاوز كل التصنيفات الأخرى رغم ما يردده المحبطون وفئة الطابور الخامس، فإنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح؛ وهو ما يبعث على التفاؤل لغد مشرق رغم قتامة المشهد وسواد الليل.