لم يسبق أن شهدت علاقات لبنان العربية هذا المستوى من التدهور. صحيحٌ أن ثمة حقبات تاريخية سابقة شهدت انكفاء وصل إلى حد القطيعة؛ إلا أن الخطوات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية العربية غالباً ما كانت تقتصر على التلويح بإجراءاتٍ معينة من دون تنفيذها، وذلك من باب الفهم العربي لطبيعة التركيبة اللبنانية التي تقوم على توازناتٍ سياسية (وأحياناً عسكرية) دقيقة تحول دون الركون إلى الخطوات الكلاسيكية التي تُعتمد في إطار العلاقات بين الدول.
من الواضح أن هذه المراعاة قد سقطت، وها هي العلاقات اللبنانية - العربية تمر في أسوأ تجاربها التاريخية بعد انتكاساتٍ تدريجية ومتتالية خلال السنوات المنصرمة، عززها العجز الرسمي اللبناني عن اتخاذ الخطوات الكفيلة بلجم هذا التدهور والحيلولة دون وصوله إلى ما وصلت إليه الأزمة الراهنة المرشحة للتفاقم على أكثر من صعيد، ما لم يتم تداركها وتطويق ذيولها من خلال خطواتٍ تعيد بناء الثقة، وتؤسس لإعادة إطلاق العلاقات القديمة وفق رؤية ومنطلقاتٍ جديدة.
الأكيد أن حصر الاهتمام والقلق اللبناني (ولو كان مفهوماً ومشروعاً) من تداعيات الأزمة مع العرب في الشق الاقتصادي، على أهميته، يبقى قاصراً عن ملامسة عمق المأزق. بالنسبة للبنان، ترميم العلاقات مع الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، يتعدى في عمقه مسألة الصادرات والتبادل التجاري والاقتصادي وحتى العمالة اللبنانية في تلك الدول. لا شك أن هذه الاعتبارات مهمة جداً للبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية مالية غير مسبوقة وهو يعيش يومياً إرهاصات الانهيار الكبير وتدهور العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والهجرة، وسوى ذلك من المشاكل البينوية التي تهدد مستقبل البلاد وأجياله الطالعة، وتكاد تطيح بكل مرتكزاته التاريخية بعد الفقدان التدريجي لميزاته التفاصلية في التربية والطبابة والاصطياف والخدمات وسوى ذلك.
لكن المشكلة الأهم، إلى جانب النواحي الاقتصادية، تتمثل في خطورة سقوط الخيار العربي في لبنان، أي عملياً في سقوط الهوية العربية للبنان التي تطلب حسمها عشرات السنين من النضال السياسي وغير السياسي بغية التوصل إليها في اتفاق الطائف الذي حصل برعاية المملكة العربية السعودية سنة 1989 (وهذه ليست مصادفة بطبيعة الحال)، فوضع حداً للحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت سنة 1975 وأطلق عملية بناء الدولة والنهوض الاقتصادي.
لقد حسم اتفاق الطائف عروبة لبنان، كما حسم توازياً نهائيته ككيان مستقل. لبنان العربي هو وطن نهائي لجميع أبنائه، وكُرست هذه الأفكار في مقدمة الدستور اللبناني الجديد. وإذا كان ثمة صراعات قديمة بين فكرتي القومية اللبنانية والقومية العربية، فإن هذه النقاش الفكري والنظري قد انحسر في نهاية القرن العشرين لأنه تبين بالممارسة أن هناك هوامش ومساحات واسعة جداً يمكن لها أن تستوعب التناقضات بين هذين المسارين. ألا يمكن الحفاظ على استقلال لبنان والتأكيد على عمقه العربي، في التاريخ والجغرافيا، في آن واحد؟ لقد أدت الأحداث السياسية والعسكرية التي عصفت بلبنان على خلفية الصراعات الإقليمية والدولية، والواقعية السياسية إلى حسم هذا الجدل في اتفاق الطائف الذي يبقى، حتى إشعار آخر، الوثيقة السياسية والمرجعية الأساسية حتى لو تنكرت لها أو داستها أطراف سياسية معنية من خلال ممارساتها المشوهة والاستعلائية التي لا تتماشى مع المصلحة الوطنية اللبنانية.
وإذا كانت الشوفينية اللبنانية السابقة قد فعلت فعلها في تأصيل العداء مع المحيط العربي، ثم ما لبثت أن تراجعت تحت وطأة غياب الواقعية في هذا الطرح وانعدام إمكانيات المواجهة التي لا تعدو كونها مغامرة انتحارية مكلفة؛ فإن التحدي الجديد الماثل أمام لبنان اليوم هو تحد من نوع آخر. إنه التحدي الذي يرمي إلى سلخ لبنان عن محيطه العربي الطبيعي الذي، بمعزل عما قد يشهده من تموجاتٍ سياسية صعوداً وهبوطاً، يبقى الملاذ الآمن الذي يعكس الصيرورة التاريخية.
ثمة معادلة واضحة لا يمكن إشاحة النظر عنها أو التغاضي عن مفاعيلها السلبية: بقدر ما ينسلخ لبنان عن محيطه العربي الطبيعي، بقدر ما يُرمى في أحضان المحاور الإقليمية الأخرى التي تُنفذ أجنداتها الخاصة بها مستغلة الانفكاك السياسي والاجتماعي في العديد من الساحات العربية لتعزيز نفوذها وحضورها فيها وصولاً إلى القبض على السلطة والقرار السياسي والوطني فيها.
وغني عن القول طبعاً أن هذه المحاور لا يعنيها استقرار تلك الدول بقدر ما يعنيها بسط نفوذها وسيطرتها عليها وتطويع سلطاتها السياسية ومجتمعاتها. إن حجم الضرر الذي تتكبده بعض المجتمعات العربية جراء السطوة المتمادية لتلك الجهات كبير جداً. ثمة انزياح هوياتي عميق تديره تلك القوى والجهات خدمة لمصالحها، وهو يؤدي في حال عدم ضبط تمدده، على المدى الطويل، إلى إعادة تركيب صورة المنطقة وفق اعتبارات جديدة تتيح لتلك المحاور أن يكون لها حظوة وقدرة كبيرة على التحكم في مسار الأمور وتحريكها في الاتجاهات التي تناسبها.
إذا كان هذا الواقع القاتم قد فرض نفسه في عدد من المواقع العربية، إلا أنه أشد وطأة في لبنان نظراً لتداخل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية وتشابكها إلى حدٍ بعيد، ما يجعل المواجهة تلامس حدود النزاع الأهلي الذي سبق أن جُرب وكانت نتائجه وخيمة وأكلافه باهظة وتمخض عن إعادة إنتاج تسوية عكست موازين قوى معينة في مكان ما، وهذا صحيح، إلا أنها لم تفض إلى إلغاء أي طرف على حساب أطراف أخرى.
إن سقوط الخيار العربي في لبنان لا تقتصر نتائجه على الداخل اللبناني حصراً، رغم فداحة هذه الخسارة وضراوتها على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ إنما هي تعني الإقرار الصريح بنجاح سياسة القضم التدريجي التي سوف تقضي في نهاية المطاف على الهوية العربية وتستبدلها بواسطة هويات أخرى تنطلق من حقد تاريخي ضد العرب والعروبة.
8:32 دقيقه
TT
ماذا يعني سقوط الخيار العربي في لبنان؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة