سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أرشيف العرب الحزين

ضياع الأرشيف، هو إحدى الكوارث التي تهدد لبنان اليوم. فلو أحصيت عدد المؤسسات الثقافية التي تحتضن التاريخ، وتعرضت للأذى المباشر، أو تركت للإهمال، تدرك حجم المأساة التي لا تعني اللبنانيين وحدهم بل العرب أجمعين.
منذ الخمسينات، وبيروت عاصمة للمثقفين العرب، فيها تركوا ذاكرتهم التي باتت عرضة فعلاً للهلاك. في «أستوديو بعلبك» الذي تأسس في الستينات ليكون أهم مركز للتسجيل الفني في المنطقة العربية، لم تكن الأعمال المنجزة لبنانية فقط. هنا تحضر أم كلثوم، صباح، فريد الأطرش، وجاء الموسيقار محمد عبد الوهاب، ليشارك في التسجيل مع صباح، لحنه الجميل والبهيج لأغنيتها «عالضيعة يما عالضيعة». وفي هذا الأستوديو الذي شُيد عازلاً للصوت، وجُهز بأحدث المعدات، تسجيلات فلسطينية ذات أهمية بالغة. استطاعت «أمم للتوثيق» التي أسسها المغدور به، لقمان سليم، بجهود جبارة أن ينقذ بعضاً من هذا الأرشيف العربي الهائل، لكن الدمار والخراب كان أسرع. وإذا كان الأصل في إنشاء الأستوديو هو على يد الفلسطينيين بديع بولس وصاحب بنك «انترا»، المتحمس للمشروع يوسف بيدس، فإن عرباً آخرين من سوريا والعراق، وحتى غربيين، كانوا جزءاً من ذلك التاريخ.
«أستوديو بعلبك» غيض من فيض الأرشيف اللبناني. ولا نعرف إن كان من حسن الحظ أن الكثير من المجموعات هي ملك فردي، إضافة إلى المجموعات الكبيرة للأعمال التشكيلية الموزعة هنا وهناك، في انتظار متحف الفن المعاصر الموعود، ولا يأتي. هناك أرشيف مهرجانات بعلبك الذي جاوز عمره النصف قرن. وقد لا تعنيك الفساتين، لكن المجموعة العائدة للفنانة صباح، هو أيضاً مما تجدر العناية به. فالأقمشة والأوراق والتسجيلات، هي مما يحتاج رعاية وتكلفة عاليتين.
لا يمكن المرور على الأرشيف من دون التذكير بروائع «المحفوظات الوطنية اللبنانية». وتلك حكاية أخرى. إذ نتكلم عن أثمن وأهم ما يمتلك لبنان اليوم. شيدت في سنوات العزّ الأبراج وفخم الفنادق، وعجائب النوادي الليلية، لم يجد اللبنانيون لتاريخهم أفضل من مستودعات تجارية تحت الأرض يدفنون فيها ذاكرتهم. لا لوم حين يقول مدير المؤسسة فؤاد عبيد حنقاً وغضباً إن «الشعوب التي ترمي تراثها وذاكرتها على قارعة الطريق، لا بدّ أن تجد مستقبلها على أرصفة دول أخرى». فحين يكون الحاضر معتلاً، هذه دلالة على أن ثمة خللاً في الذاكرة. ووحدهم من لا يقرأون التاريخ، لا يتعلمون من أخطائهم، ويكررون المآسي نفسها. كلام لا يعني اللبنانيين وحدهم، بل شعوباً عربية عديدة تفقد إرثها بسبب الحروب الدموية والفوضى، وتدخل في غياهب ألزهايمر قاتل. يصف عبيد مؤسسته بما هي عليه بأنها «لإتلاف المحفوظات أكثر مما هي لحفظ الثروة الفكرية والثقافية والتراثية». ونحن نشاركه السؤال، «إلى متى يبقى هذا الحق العام الذي اسمه الذاكرة الوطنية، مشتتاً ومغيباً وضائعاً ومعتدى عليه من قبل الجميع! ومتى يُدرج في سُلّم أولويات المسؤولين».
قبل أيام احتفلت «الـيونسكو» بـ«اليوم العالمي للتراث السمعي البصري». وهي مناسبة سنوية لحض الدول على حفظ تراثها، ورقمنة محفوظاتها وترتيب ذاكرتها. عربياً، لم يعبأ أحد. لبنانياً، نعيش في كوكب آخر. مع أن هذه المشاريع يمكن أن تمول وتدعم، وتحتاج فقط شيئاً من الاهتمام. اضطرابات البلاد، ليست سبباً ليغرق الجميع في المهاترات، ويدوروا في دوامة النقاشات العقيمة. العمل في الوقت الضائع من أجل صيانة أغلى ثروة يمتلكها لبنان، هو أهم ما يمكن أن يفعله وزير الثقافة.
برنامج غاية في الأهمية أطلقته «الـيونسكو» عام 1992 تحت اسم «ذاكرة العالم» الهدف منه جمع التراث الوثائقي وحفظه وحمايته، وجعله متاحاً للإنسانية. وأن يكون لدولة أرث ذو أهمية كبيرة، يمكن أن يصنف إرثاً عالمياً، كما صنفت من قبل مواقع أثرية باعتبارها «تراثاً عالمياً». تلك فرص تهدر، بينما الأفلام والتسجيلات الصوتية، والمباني القديمة، ينهشها الإهمال، أو يقضي عليها انفجار فاجر.
إذا أحصينا عدد الكتب العربية التي أنتجتها المطابع اللبنانية، وأصبحت عالّة على دور نشر، فقدت القدرة على التسويق أو حتى نقلها إلى أماكن أخرى، وخزنت في أقبية رطبة، يمكن تخيل ما هو في طريقه إلى الاندثار. لن نتحدث عن أرشيف تلفزيون لبنان، الذي دار حول كنوزه لغط كثير، ويمكن اعتباره الأول عربياً من حيث تاريخ الانطلاق، لأن تلفزيون بغداد سبقه ببث على نطاق محدود جداً، وكذلك أرشيف الإذاعة اللبنانية، فاللائحة طويلة وموجعة.
في كل قرية ما يستحق التوثيق، وعلى كل ناصية طريق ما يحتاج الإنقاذ. بدأت أسواق طرابلس، ثاني مدينة مملوكية بعد القاهرة، تفقد حتى شكلها التاريخي القديم. ثمة معماريون يصورون النقوش على المباني ويعيدون رسمها، لأنها لن تكون موجودة على الأرجح في الغد القريب. مساحات تاريخية مأهولة، تتداعى على سكانها. التاريخ ليس مجموعة من الأحداث يغيبها الطلاب ويعيدون اجترارها في الامتحانات. إن لم يكن الماضي منتعشاً في طبق الطعام، وفي الأفلام والروايات وداخل صالات السينما، وعلى شرفات المنازل، فهو ميت. كل الكلام عن حق الفلسطينيين القانوني في العودة، يضعف أمام صورة مفتاح قديم صدئ تشهره عجوز فلسطينية في وجه المحتل، مصرّة على أن ترجع وتفتح باب بيتها الذي طردت منه. كل الأمنيات في أن تنسي إسرائيل العالم، بأن فلسطين أرض بلا شعب تنهار أمام صور الهويات الفلسطينية للأجداد التي نشرها الأحفاد على انستغرام.
التوثيق كما الأرشفة ليسا من شيم العربي. فهذه المهام تحتاج فكراً علمياً تنظيمياً دقيقاً، وصبراً وشغفاً، كما الإيمان العميق بأن التاريخ بملموسه من صورة وأغنية وكتاب ورسالة وفيلم، هي من العناصر الأساسية التي تعيد بناء بزل التاريخ، الذي عليه يبنى المستقبل.
وثّقوا وأرشفوا قبل أن تندثروا...