جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

ليبيا: أصحاب الأموال وإنقاذ الصحافة

العلاقة بين النُخب السياسية ووسائل الإعلام، تتصف أحياناً بترسخ الريبة، حتى في أكثر بلدان العالم تمرساً بالديمقراطية. الريبة، من جانب الطرفين، ناجمة تاريخياً عن انعدام الثقة بينهما. ذلك أن أهل السياسة، بطبيعتهم، يسعون إلى عدم نشر كل الحقائق، وما قد يرتكب بعضهم من مخالفات تتعارض مع القوانين واللوائح والنظم المعمول بها، في حين أن الإعلاميين يرون أن واجبهم يحتم عليهم كشف المستور، وما يقع من ممارسات، وصفقات خلف أبواب مغلقة. وفي الما بين تتلاشى الثقة، وبالتالي، تضيع الحقيقة.
ورغم أن الصحافة المقروءة في ليبيا تُعد، وفقاً للمصادر التاريخية، سابقة عن نظيراتها في كثير من البلدان العربية، من حيث النشأة، إلا أن ذلك التميز التاريخي، على أهميته، لم يؤدِ، كما هو متوقع، وكما حدث في غيرها من البلدان، إلى ترسيخ وتعميق جذورها في المجتمع، بسبب الحروب التي شُنت ضدها، من قبل النخب السياسية على اختلافها، وأدت إلى وأد تطورها. ومن الممكن القول، إن تلك العلاقة العدائية، من جانب النخب السياسية الليبية نحو الإعلام وأهله، قد بدأت منذ مرحلة الاستقلال، ووصلت، فيما بعد، إلى درجة عالية مما يمكننا أن نصفه بحالة من تعقيد مركب. بمعنى، أن النخب الحاكمة لا تستطيع الاستغناء عن وسائل الإعلام، لكنها، في الوقت نفسه، تمقته، وتستريب في الإعلاميين، أي «لا نحبك ولا نطيق فراقك»، وقد يفسر ذلك النكسات العديدة التي لحقت بالإعلام الليبي المكتوب والمرئي والمسموع، وربما للسبب نفسه، عرفَ الإعلاميون الليبيون الطريق إلى السجون والمنافي.
ففي حين اتسم النظام الملكي بمنح الصحافة المستقلة، غير الحكومية، هامش حرية ليس بالقليل، حرص النظام العسكري، الذي خلفه، على محو ذلك الهامش كلية، بتأميم وسائل الإعلام، وتحويله إلى أبواق دعائية، لا شغل لها سوى التبشير بفكر «القائد الأوحد». وتطور به الأمر إلى تأسيس جهاز أطلق عليه اسم جهاز الرقابة على الصحف. لكن بعد سقوط النظام العسكري في عام 2011، شهدت الساحة الإعلامية، في الشهور الأولى للانتفاضة، ثورة غير مسبوقة. وتعددت منابرها ومراكزها وصحفها وقنواتها التلفزيونية والإذاعية. تلك الطفرة لم تدم طويلاً. إذ أدت سيطرة الجماعات المسلحة الدينية المتطرفة إلى مطاردة الصحافيين والإعلاميين عموماً، بل وقامت فعلياً باغتيال كاتب صحافي معروف، هو الراحل مفتاح أبو زيد في قلب مدينة بنغازي بالرصاص، وفي وضح النهار.
وفي سنة 2014، التي شهدت ما صار يعرف باسم حرب «فجر ليبيا»، في الشق الغربي من البلاد، أدت تلك الحرب، فعلياً، إلى اختفاء الصحافة المكتوبة، العامة والخاصة. وعقبها، تحولت القنوات التلفزيونية المتبقية، في الغرب والشرق، إلى أبواق دعائية، ترفع رايات حزبية وجهوية مختلفة، تخصصت في نشر الأكاذيب، وتعميق الكراهية، بين أبناء الشعب الواحد. وخلال فترة الإخفاء والتغييب الإعلامي تلك، سيطرتْ وسائل التواصل الاجتماعي في الإنترنت على الساحة. وزادت في تأجيج حدة الصراع وتعميق الاختلاف. وعرف الليبيون ما صار يعرف باسم جيوش «الكيبورد»، وهم شباب تم تجنيدهم، من مختلف أطراف الصراع، يتخندقون كأشباح، خلف أجهزة الحاسوب، بغرض تشويه الخصوم، ونشر الشائعات والأكاذيب والأحقاد.
وقد لا يعرف الكثيرون، أن صحفاً ليبية مستقلة، تطبع وتنشر خارج البلاد، غير مسموح بدخولها وتداولها في ليبيا، حتى الآن، رغم ما تتصف به من مهنية صحافية مميزة، وراقية، مقارنة بما يصدر من صحف حكومية. اللافت للانتباه، أن قرار المنع لم يصدر عن أي جهة حكومية. وكل ما حدث هو أن الجماعات المسلحة، في غرب البلاد وشرقها وجنوبها، على اختلاف ألوان راياتها، تهاجم أماكن بيع الصحف على قِلتها، وتقوم بمصادرة تلك الصحف، وربما التعرض بالعنف لمن يقومون بعرضها للبيع، إذا قامت تلك الصحف بنشر أخبار الخصوم. ووفقاً لذلك الواقع، صار من الصعوبة بمكان العثور على أماكن بيع صحف، نتيجة لقيام أصحابها بتأجيرها، أو تحويلها إلى متاجر متخصصة في بيع الملابس والأحذية، أو مقاهٍ ومطاعم، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن الصحف الحكومية، التي استأنفت الصدور خلال العامين الماضيين، أو أزيد قليلاً، تطبع أعداداً قليلة جداً، وأغلبها تنقصه المهنية الصحافية. كما أن مواقعها على الإنترنت بائسة وفقيرة، وسيئة الإعداد، وناقصة التجهيز لافتقادها للكوادر المتخصصة، بسبب تهميشها وحرمانها من الأموال اللازمة.
وفي الآونة الأخيرة، يدور في ليبيا نقاش بين المثقفين والإعلاميين والكتاب، حول أهمية عودة الصحف المستقلة إلى الساحة. ويتساءلون عن الأسباب وراء رغبة رأس المال الخاص في ليبيا الاستثمار في فتح قنوات تلفزيونية، في حين أن السوق الإعلامية الليبية تواجه فراغاً ملحوظاً ناجماً عن غياب الصحافة الورقية اليومية. ويتساءلون عن الأسباب التي تنأى بهم (أصحاب رؤوس الأموال) عن ملء ذلك الفراغ الإعلامي، بما يعود عليهم كمستثمرين وعلى البلاد والعباد بالنفع.