لقد قابلت الرئيس التنفيذي لشركة «فيسبوك» مارك زوكربيرغ مرة واحدة فقط، ولكن لم تسِر الأمور بيننا بشكل جيد، فقد كانت المقابلة في مأدبة عشاء في يوليو (تموز) 2017، في أعقاب فوز (الرئيس الأميركي السابق) دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية 2016، وكان الجدل محتدماً حول الدور السياسي لـ«فيسبوك» في البلاد، وحينها تحليت بالجرأة الكافية لتحذيره من أن شركته قد باتت تشبه بشكل متزايد شركة «ستاندرد أويل» التابعة لجون دي روكفلر، وكذلك صحف مؤسسة «هيرست» التابعة لويليام راندولف هيرست.
وقد كنت أعني بذلك أن «فيسبوك» لم تعد تواجه خطر السير في طريق شركة «ستاندرد أويل»، التي كانت الهدف المفضل لمحاربي انعدام الثقة بالعصر التقدمي، ولكنها باتت أيضاً بمثابة كيان مسمم على المستوى السياسي مثل مجموعة صحيفة «هيرست» التي أصبحت على قمة الصحف الصفراء في البلاد.
ولكن يبدو أن زوكربيرغ لم يعجبه كلامي، ولم يقم بالنقر على زر «أعجبني»، إلا أنني لم أتفاجأ من رد فعله، إذ إنه لم يكن يحضر أياً من محاضراتي عندما كان يدرس في جامعة «هارفارد» أيضاً، وعلى الرغم من أنه قد أعلن مؤخراً إعجابه بـ«القيصر الروماني» يوليوس قيصر، فإن مؤسس «فيسبوك» لم يذهلني أبداً باعتباره مهتماً بالتاريخ بشكل جدي.
وإليكم سجل المؤسسات المشابهة لـ«فيسبوك»، فقد تم الثناء على شركة «ستاندرد أويل» في البداية لدورها في رفع الكفاءة الصناعية في البلاد، وخفض سعر الكيروسين بعدما ارتفعت حصتها في سوق النفط الأميركية إلى 90 في المائة، ولكن الصحافة الاستقصائية الباحثة عن الفضائح، خصوصاً كتاب إيدا تاربيل الذي كان بعنوان «تاريخ شركة ستاندرد أويل»، قد أثار غضب الرأي العام بشدة تجاه الشركة.
كما عانت مؤسسة «هيرست» الصحافية من مصير أسوأ من «ستاندرد أويل»، إذ حصل هيرست، الذي تخرج من جامعة «هارفارد» مثل زوكربيرغ، على صحيفة «سان فرانسيسكو إكزامينر» في عام 1887 كهدية من والده الثري، واستثمر هيرست في تكنولوجيا الطباعة الفائقة، وقام بتعيين كتاب لامعين مثل مارك توين، ما مكنه من تحويل الصحيفة إلى ما كان يتم وصفها بـ«ملكة الصحف اليومية»، إذ إنه إجمالاً قد أسس أو استحوذ على 42 صحيفة، بما في ذلك واحدة على الأقل في كل مدينة أميركية كبرى، وقد وصلت صحف «هيرست» في ذروة نجاحها في منتصف الثلاثينات إلى 20 مليون قارئ يومياً، أي واحد من كل أربعة أميركيين كانوا يقرأونها.
وقد كانت صحف «هيرست» تخاطب الطبقة العاملة في المناطق الحضرية، حيث مزجت السياسة الشعبوية والتقدمية مع القومية وكراهية الأجانب والانعزالية في وقت لاحق، وفي تسعينات القرن التاسع عشر، دعم هيرست المرشح الرئاسي الديمقراطي الشعبوي ويليام جينينغز بريان، لكن أساليبه في الضغط من أجل الحرب الإسبانية - الأميركية كانت تتم بلا ضمير، وفي تلك الأيام كانت الصحافة الصفراء تتمثل في نشر الأخبار الكاذبة، وقد جسد فيلم المخرج أورسون ويلز قصة صعود وهبوط «هيرست» في فيلم صدر عام 1941 باسم «المواطن كين»، وقد كان كاتب السيناريو في الفيلم هيرمان جيه مانكيفيتش قد اختلف مع هيرست في وقت سابق من حياته المهنية.
وخلافاً للاعتقاد الشائع، فإن مارك توين لم يقل أبداً: «التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتشابه»، ولكن ما كتبه هو: «التاريخ لا يعيد نفسه أبداً، ولكن يبدو أن التركيبات المتغيرة للشكل للحاضر غالباً ما تكون مبنية من الأجزاء المكسورة من الأساطير العتيقة»، ولذا فإنه يبدو أن زوكربيرغ اليوم هو مزيج من روكفلر وهيست.
وتعد شركة «فيسبوك» مؤسسة كبيرة جداً جداً وتجني كثيراً من المال، ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة «بيو للأبحاث» على البالغين في الولايات المتحدة في فبراير (شباط) الماضي، فإن 69 في المائة منهم كانوا من مستخدمي الشركة، كما يضم الموقع 2.8 مليار مستخدم في جميع أنحاء العالم، وهو ما يمثل 60 في المائة من جميع الأشخاص على وجه الأرض الذين لديهم اتصال بشبكة الإنترنت، وبعد حساب مستخدي تطبيقات «إنستغرام» و«واتساب» و«ماسنجر» وهي كلها تابعة لـ«فيسبوك»، فإنه يكون هناك 3.14 مليار شخص يستخدمون تطبيقات الشركة، أي ما يقرب من نصف البشرية.
ولذا فإنه لا عجب أن القيمة السوقية لـ«فيسبوك» تبلغ أقل بقليل من تريليون دولار أميركي، إذ إنها توفر أكبر وصول وأعلى دقة في تاريخ الإعلانات، وكما أوضح مارك زوكربيرغ ذات مرة للسيناتور الأميركي أورين هاتش، فإن خدمة «فيسبوك» مجانية للمستخدمين، لأنها «تبيع الإعلانات».
وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، كان التخلص من عبء «فيسبوك» بمثابة طريق إلى الظهور بالنسبة لكثير من الصحافيين الطموحين، وذلك لسبب واضح؛ وهو أن شركات الإعلام التقليدية تكره الشركة بسبب تناولها لوجبات الغداء الخاصة بها، إذ إنها تحصل على جانب كبير من الإعلانات التي كانت تذهب إليهم سابقاً، فقد صنعت الصحافية كارول كادوالادر من صحيفة «ذا غارديان»، البريطانية، اسمها من خلال الكشف أن «فيسبوك» قد نشرت بيانات عن عشرات الملايين من المستخدمين لشركة الاستشارات السياسية «كمبردج أنالاتيكا»، الشهر الماضي، ثم جاء دور الصحافي جيف هورويتز من صحيفة «وول ستريت جورنال»، الأميركية، الذي كشف وزملاؤه، في سلسلة من القصص التي جاءت باسم «ملفات فيسبوك» أن الشركة كان لديها نظام سري من مستويين لفرض قواعدها، ما يؤدي للتراخي أمام بعض المشاهير مثل نجم كرة القدم البرازيلي نيمار وترمب، اللذين كانا فقط اثنين من 5.8 مليون مستخدم يمكنهم انتهاك معايير الشركة من دون أي عواقب، وذلك وفقاً لمذكرة داخلية تم تسريبها من «فيسبوك».
كما كشفت «ملفات فيسبوك» أن الشركة قد أدركت أن تطبيق «إنستغرام» يؤدي لتفاقم «مشكلات صورة الجسد» بين المراهقين، ووفقاً لبحث الشركة في مارس (آذار) 2020، قال 32 في المائة من الفتيات المراهقات «إنهن عندما يشعرن بالسوء حيال أجسادهن، فإن (إنستغرام) يجعلهن يشعرن بشعور أكثر سوءاً»، ومن بين المراهقين الذين أبلغوا عن أفكار انتحارية، فإن 13 في المائة من المستخدمين البريطانيين و6 في المائة من المستخدمين الأميركيين قالوا إن رغبتهم في قتل أنفسهم كان سببها استخدامهم للتطبيق.
وثالثاً، فإنه قد كان لقرار «فيسبوك» في 2018 بتغيير خوارزمية موجز الأخبار للتأكيد على «التفاعلات الاجتماعية الهادفة» تأثير ضار أدى إلى زيادة مستويات الغضب عبر الإنترنت، وقد ادعى زوكربيرغ أن التحول من مساعدة الأشخاص في العثور على محتوى ذي صلة إلى مساعدتهم في التفاعل مع الأصدقاء والعائلة كان تضحية من جانب «فيسبوك»، ولكن سرعان ما أدركت الشركة أن «الناشرين والأحزاب السياسية كانوا يعيدون توجيه مشاركاتهم نحو الغضب والإثارة»، وذلك ليس فقط في الولايات المتحدة، ومع ذلك فقد ضغطت الشركة لأنه، وفقاً لكيفين روز من صحيفة «نيويورك تايمز»، فإنه لطالما كان التغيير الذي تم إجراؤه في موجز الأخبار محاولة لعكس التراجع المستمر منذ سنوات في تفاعل المستخدمين.
فيما تناولت الحلقة الرابعة من «ملفات فيسبوك» دور الشركة في الجريمة المنظمة وانتهاكات حقوق الإنسان في العالم النامي، التي كشفت أن عصابة «كارتل» المكسيكية لتجارة المخدرات كانت تستخدم «فيسبوك» لتوظيف القتلة وتدريبهم ودفع أجورهم، فضلاً عن استخدامه من قبل المتاجرين بالبشر في الشرق الأوسط لإغراء النساء للعمل في ظروف عمل مسيئة، وأن الجماعات المسلحة في إثيوبيا استخدمته للتحريض على العنف ضد الأقليات العرقية.
وأخيراً، تبين أن «فيسبوك» تلعب دوراً رئيسياً في نشر المعلومات الخاطئة حول لقاحات فيروس كورونا المستجد، إذ تبين أن أكثر من خمسي التعليقات على المنشورات المتعلقة باللقاح باللغة الإنجليزية تخاطر بتشجيع الناس على عدم الحصول على التطعيمات، وقالت إحدى المشاركات، التي حصلت على 53 ألف إعادة مشاركة وثلاثة ملايين مشاهدة، إن اللقاحات «كلها تجريبية وإن السكان هم جزء من التجارب».
وقد اتضح فيما بعد أن مصدر المعلومات المذكورة في «ملفات فيسبوك» كانت واحدة فقط وهي فرنسيس هوغان، الموظفة في «فيسبوك» التي تركت الشركة في مايو (أيار) الماضي بعد العمل على قضايا الديمقراطية والتضليل ومكافحة التجسس، ولم تكتفِ هوغان بتمرير معلوماتها إلى «وول ستريت جورنال» فقط، ولكنها أجرت أيضاً مقابلة مع برنامج «60 دقيقة» يوم الأحد الماضي، وأدلت بشهادتها أمام لجنة التجارة الفرعية بمجلس الشيوخ الأميركي يوم الثلاثاء الماضي، كما أطلقت سلسلة متوالية من الرسائل إلى مكتب الإبلاغ عن المخالفات التابع للجنة الأوراق المالية والبورصات.
وتكسب «فيسبوك» مزيداً من المال عندما يستهلك المستخدمون مزيداً من المحتوى، ويستمتع الناس بالتفاعل مع الأشياء التي تثير رد فعل عاطفياً، وكلما زاد الغضب الذي يتعرضون له، زاد تفاعلهم وزاد استهلاكهم للمحتوى، وصحيح أن زوكربيرغ لم يرغب أبداً في إنشاء منصة بغيضة، ولكنه سمح بالاختيارات التي لها آثار جانبية تتمثل في أن المحتوى البغيض والمستقطب يحصل على مزيد من التوزيع والوصول الأكبر.
ووفقاً لصحيفة «واشنطن بوست»، فإن «فيسبوك» قام بتضخيم الأصوات المترددة بشأن الحصول على اللقاحات بشكل غير متناسب على حساب آراء الخبراء، وفي التقرير الربع السنوي حول أكثر المنشورات مشاهدة في الولايات المتحدة سعت الشركة لإخفاء أن رابطها الأكثر انتشاراً كان مقالاً من صحيفة «شيكاغو تريبيون» عن وفاة طبيب تم تطعيمه.
وتكمن المشكلة في أن الشركة التي يبدو أنها تتفوق على «فيسبوك» هي «تيك توك» التابعة لشركة «بايت دانس المحدودة»، والتي تجاوزت العام الماضي تطبيق «ماسنجر» التابع لـ«فيسبوك»، لتصبح أكثر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي تحميلاً في الولايات المتحدة، كما تفوقت «تيك توك» على «فيسبوك» باعتباره التطبيق الاجتماعي الأكثر تحميلاً في جميع أنحاء العالم، وقد قمت العام الماضي بتوضيح سبب كون انتصار تطبيق صيني لجمع البيانات أمراً سيئاً.
وقد كانت النصيحة الأخرى التي قدمتها لمارك زوكربيرغ في عام 2017 هي التخلي عن تصوير «فيسبوك» على أنه «مجتمع عالمي»، وبدلاً من ذلك الاستفادة من كونه شركة أميركية، إذ قلت له حينها إنه عندما تأتي شركات أخرى بعد «فيسبوك» فإنه سيرغب في أن يكون قادراً على إخبارهم بأن يكونوا حذرين، وذلك لأنه يملك شركة أميركية تكنولوجية كبرى توقفت عن التنافس مع شركات التكنولوجيا الأخرى، ولكن حتى الآن، يبدو أن زوكربيرغ يتعامل مع هذه الحجة بفتور، حيث تعجب في حديثه عندما كان يدلي بشهادته في الكونغرس في أبريل (نيسان) 2018 من طرح البعض لإمكانية توقف «فيس بوك»، قائلاً إن «تفكيك الشركة يقوي الشركات الصينية»، وأضاف لأعضاء مجلس الشيوخ في ذلك الوقت: «ما زلنا بحاجة إلى الاستمرار حتى تتمكن الشركات الأميركية من الابتكار، وإلا فإننا سنتخلف عن المنافسين الصينيين، فشركات الإنترنت الصينية تمثل تهديداً استراتيجياً وتنافساً حقيقياً في سياسة التكنولوجيا الأميركية، ويجب أن نفكر في الأمر»، وفي يوليو من العام الماضي، وصف «فيسبوك» بأنه «شركة أميركية يفخر الجميع بها لأنها تؤمن بالقيم الديمقراطية والمنافسة وحرية التعبير».
ومع ذلك، فإنه قد قال إن «كل ما هو جيد لـ(فيسبوك) يعد جيداً لأميركا أيضاً»، ولكن في الوقت الحالي يعتقد المشرعون الأميركيون ونسبة متزايدة من الناخبين الأميركيين، أن ما هو سيئ لـ«فيسبوك» يعد مفيداً لأميركا، وهو إحساس مُبرر بشكل جزئي، فإذا كان المستفيد النهائي من خيبة الأمل من أكبر شبكة اجتماعية في العالم هو الصين، فإن اللوم سيقع بشكل مباشر على مارك زوكربيرغ نفسه، وحينها لا يستطيع أن يقول إنني لم أحذره.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
7:37 دقيقه
TT
«فيسبوك» لا ينظر في التاريخ... وبات في مواجهة أزمة ثقة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة