نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

أحلام نيويورك تصطدم بصخور الواقع

الذين كانوا يعتقدون أن الإعلان عن التزامات مناخية جديدة، أكان لخفض الانبعاثات أم التمويل، يكفي لحل المشكلات، اكتشفوا أن المسألة أكثر تعقيداً. الأكيد أنّ تعهدات الدول الكبرى خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت خطوة على الطريق الصحيح، لكن التحدّيات ما زالت قائمة، على جبهات البيئة والمناخ، كما السياسة والاقتصاد.
وكما كان منتظراً، احتلّت قضيّة المناخ موقعاً بارزاً في خطب الرؤساء، مع أن هذه الدورة لم تكن مخصصة للموضوع، لكن انعقادها على أبواب قمة المناخ 26 التي تلتئم في غلاسكو الشهر المقبل حوّلها حلبة منافسة على طرح وعود طوعيّة تسبق القمة، لعلها تتحول إلى التزامات وحقائق.
شهدت الجمعية العامة هذه المرة إجماعاً على تشخيص مشكلة التغيُّر المناخي وسبل مجابهتها، لكن الخلاف يبقى على توزيع فاتورة التكاليف الضخمة، في إطار السؤال المستمرّ منذ ثلاثين عاماً: من يدفع الثمن؟ فلتخفيض الانبعاثات الغازية، والتحوّل إلى الطاقة النظيفة والمتجددة، مضاعفات كبيرة على الاقتصاد لأنه مهما أبدعنا في تزيين حسنات «الاقتصاد الأخضر» تبقى تكاليفه باهظة، ما بقي التلويث مجانياً. لهذا تركّز المفاوضات على تدابير متزامنة بين الدول الصناعية لتخفيض الانبعاثات معاً في وقت واحد، فلا تستفيد دولة على حساب أخرى.
الدول الصناعية الغنية قادرة على دفع تكاليف التدابير المناخية داخل حدودها، وليس ثمة ما يمنع هذه الدول من التوصل إلى اتفاق على توزيع الحصص فيما بينها، إذا توفرت الإرادة السياسية والشعبية لقبول تدابير مالية موجعة. لكن دول الاقتصادات الناشئة، وفي طليعتها الصين، وهي أكبر مصدر للانبعاثات الكربونية في العالم اليوم، ما زالت تعد أنها تستحقّ فترة سماح قبل وقف الانبعاثات بالكامل. فبينما التزمت الدول الصناعية الأخرى بهدف «صفر انبعاثات» سنة 2050، أخّرت الصين التزامها إلى سنة 2060، وأبقت تعهداتها بتخفيض الانبعاثات غامضة حتى ذلك التاريخ، كأنها تطالب بالحق في التلويث لسدّ الفجوة في التقدّم الذي حققته الدول الغنية منذ الثورة الصناعية، حين استنزفت مصادر الطاقة والموارد بلا قيود، فتسببت بالارتفاع الكبير في الانبعاثات خلال السنوات المائة الماضية.
وإذا كانت مطالب الصين تقتصر على «الحقّ في التلويث» من خلال فترة سماح، فإن انخراط الدول النامية الفقيرة في برامج التصدّي للتغيُّر المناخي ليس ممكناً بلا دعم مادي مباشر لتغطية التكاليف، لهذا تعهدت الدول الغنية بإنشاء صندوق خاص ترتفع قيمة المساهمات السنوية فيه لتصل إلى 100 مليار دولار سنة 2020، لكن معظم الدول لم تفِ بالتزاماتها، مما أبقى سقف التمويل أدنى كثيراً من الهدف المحدَّد. والمفترض أن يساعد الصندوق الدول الفقيرة على خفض الانبعاثات بالتحوّل إلى أساليب الإنتاج والاستهلاك الأنظف، إلى جانب إنشاء البنى التحتية القادرة على التكيُّف مع بعض آثار التغيُّر المناخي غير القابلة للوقف.
الرئيس الأميركي جو بايدن تعهد في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن بلاده ستضاعف مساهمتها في التمويل المناخي، لتتجاوز 11 مليار دولار سنوياً، وهي المساهمة الأكبر بعد دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة. وهكذا، أصبح هدف جمع 100 مليار دولار سنوياً أقرب إلى التحقيق من أي وقت مضى، مع أن المساهمة الأميركية تحتاج إلى موافقة الكونغرس. وحتى الآن، كانت الدول الأكثر التزاماً بالتمويل المناخي في مجموعة السبع هي ألمانيا واليابان وفرنسا، أما الأسوأ فكانت الولايات المتحدة وإيطاليا، لكن معظم التمويل الموعود يأتي على شكل قروض يجب سدادها، ولو كانت ميسّرة طويلة الأجل، بينما المطلوب أن يكون جزء كبير منها هبات لا تثقل كاهل الدول الفقيرة بالتزامات إضافية.
الرئيس الصيني شي جينبينغ أعلن في الجمعية العامة أن بلاده ستتوقف عن بناء محطات كهرباء خارج الصين تعمل على الفحم الحجري. فضمن مبادرة «الحزام والطريق» التي تتولاها الصين في الدول النامية، خاصة في آسيا وأفريقيا، بنت خلال السنوات الأخيرة عشرات المحطات الكهربائية العاملة على الفحم الحجري، أحد أكثر أنواع الوقود تلويثاً. لكن من غير الواضح ما إذا كان القرار يشمل أيضاً محطات الفحم الحجري المقررة سابقاً التي لم يبدأ بناؤها بعد. كما أنه من غير المتوقَّع أن يشمل وقف محطات الفحم الحجري الجديدة داخل الصين نفسها، وهو الوقود الرئيسي لصناعاتها. ويُذكر أن مبادرة «الحزام والطريق» التي تشمل تمويل وبناء البنى التحتية من طرقات وموانئ ومطارات وسدود ومحطات طاقة تُثقل بدورها الدول الفقيرة بالديون، فتضعها بين مطرقة الغرب وسندان الشرق.
وبينما كان زعماء الدول الكبرى يتبارون في عرض النيّات المناخية الحسنة في المهرجان السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، كانت حقائق السياسة والاقتصاد تكشف واقعاً مغايراً على جبهات أخرى. فالصين عدت التحالف الأمني الاستراتيجي الجديد بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا الذي يتضمن تزويد الأخيرة بغواصات نووية متطوّرة تحدياً عسكرياً لها. وهي تنظر بالتأكيد بعين طموحاتها الاقتصادية، من خلال مبادرة «الحزام والطريق»، التي تقوم على استخدام جبروتها الاقتصادي المتعاظم لتوسيع نفوذها. أمّا فرنسا، ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، فقد عدت التحالف تجاهلاً وتهميشاً لها، خاصة أنه تسبب بخسارة فرنسا عقداً بعشرات المليارات لبيع أستراليا غواصات تقليدية. وتزامن هذا مع استمرار الذهول من تداعيات الانسحاب العشوائي من أفغانستان، والتخوُّف من انعكاساته غير المحسوبة على الدول المحيطة والعالم.
وفيما كانت الجمعية العامة في نيويورك تناقش رفع الالتزامات المالية المناخية، ضربت أوروبا موجة عاتية من ارتفاع أسعار الطاقة بسبب تقلبات حادّة في أسواق الغاز العالمية، وتناقص الإمدادات من روسيا، المصدر الرئيسي للغاز في كثير من الدول الأوروبية. وفي حين عد بعضهم أن هذا يجب أن يكون حافزاً لتسريع وتوسيع برامج إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح لتخفيف الاعتماد على الغاز، يبقى الواقع أن ارتفاع كلفة الكهرباء والتدفئة التي ستتضاعف خلال شهور الشتاء ستستنفد جزءاً كبيراً من الأموال التي كانت مخصصة لقضايا المناخ. وهذا يؤكد حتمية التحوُّل الطاقوي السلس لمصلحة المنتجين والمستهلكين معاً.
الصين، كما الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، دعت في الجمعية العامة إلى التعاون الدولي، وحلّ النزاعات سلمياً، لكن تحقيق هذا لن يكون بالأمر اليسير، في ظل الصراع المحموم على النفوذ الاقتصادي، فهل يسقط العمل المناخي، والبيئي عموماً، ضحيّة لهذا الصراع أم يمكن تحويله إلى تنافس يصبّ في مصلحتهما؟