د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

كيف يتفاهم العربي مع الألماني؟

رسمت أمامنا أستاذة أميركية بالطباشير، قبل عشرين عاماً، خطاً أفقياً كبيراً قسم السبورة السوداء إلى نصفين. وبدأت تشرح لنا جانباً من خبرتها في التعامل مع الشعوب، ومن هم الأكثر اجتماعية وصخباً في العلاقات الاجتماعية. وإذ بها تضع العرب في أقصى اليمين وبعدهم مباشرة وضعت الإسبان ثم الإيطاليين. ثم أردفت قائلة: لأني أميركية من أصول إيطالية فإنني أعي جيداً ما أقول. ومضت تسطر الشعوب واحداً تلو الآخر حتى جاء الغربيون في أقصى اليسار على اعتبارهم أقل صخباً، بمعنى أن أصواتهم خفيضة عند التواصل مع الآخرين وحركة إيماءاتهم بطيئة.
وبعد سنوات عدة وجدت ما يثبت جزءاً كبيراً من انطباعها، لكن في التواصل، وذلك بعد أن كشف عالم الإنثروبولوجيا الشهير إدوارد تي هال، في أبحاثه وكتابه «ما وراء الثقافة»، أن الشعوب الصينية والعربية والأفريقية واليونانية والمكسيكية والإسبانية، تختلف أنماط تواصلها مقارنة بشعوب مثل الألمان، والإسكندنافيين والأميركان والإنجليز والفرنسيين والإيطاليين. وما سبق هو الترتيب من الأعلى إلى الأدنى لكل مجموعة.
فعندما يدير ألماني مرؤوسين عرباً أو صينيين، فإنه قد يكون معهم مباشراً في طروحاته وطلباته وأوامره ونواهيه، الأمر الذي قد يثير حفيظة العربي الذي يعتبر من الشعوب التي تعيش فيما يطلق عليه «ثقافة السياق المرتفع» (high - context)، أي أن أنماط تواصلهم تمتاز بأنها أكثر عمومية، ولا يحددون توقعاتهم بدقة من الطرف الآخر، وتغلب على اتفاقاتهم العمومية، وتؤثر فيهم نبرة الصوت، والحالة الاجتماعية، والمنصب، وتلعب الثقة والعلاقات السابقة مع الناس دوراً ملحوظاً في تواصلهم، وكذلك الحال مع الإيماءات الجسدية.
أما الدائرة الثانية فهي «ثقافة السياق المنخفضة» (low - context culture) (من الألمان حتى الإيطاليين)، التي عادة ما تحدد بوضوح ما هو المتوقع من الطرف الآخر، وتسعى إلى كتابة حواراتها إن كان ذلك ممكناً، وتمتاز اتفاقاتها مع الناس بأنها مكتوبة. ويعد الألمان أكثر فئة ممارسة لتلك السلوكيات والإيطاليون أقلها. والمفارقة أن الإنجليز والأميركان ليسوا أكثر تشدداً من الألمان في هذا الجانب. إذن الشعوب تقع في دائرتين للتواصل مختلفتين تعكسان نمط تواصلهما. فالأمر لم يعد مجرد انطباعات أو صورة نمطية على الأقل في التواصل.
فعندما يطلب مدير ألماني جديد من مرؤوسه العربي أو الآسيوي طلباً مباشراً ومن دون مقدمات، فقد يعد المرؤوس ذلك نوعاً من الفظاظة. ولو فعل ذلك مدير إنجليزي وحرص على أن يكتب كل طلباته، فقد يفسر العربي هذا النوع من التواصل محاولة «مبيتة لتصيد أخطاء» العاملين معه. والسبب أن العربي أو الآسيوي يركز عادة على العلاقة الوطيدة، والثقة، أكثر من التعليمات المباشرة والمكتوبة.
خلاصة القول إن هناك فارقاً بين الانطباع الفردي وبين الدراسات، فالأخيرة أقرب إلى الدقة لكنها لا ينبغي أن تدفعنا إلى تصنيف الناس والشعوب أو ازدرائها. فالبشر خلقوا مختلفين ليكمل بعضهم بعضاً.