روس دوثات
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

«ترويض» الإنترنت

أحدث ظهور التكنولوجيا المتقدمة ومواقع التواصل الاجتماعي سلسلة من المشكلات الصعبة، وربما المستعصية على الحل بالنسبة إلى المجتمعات الغربية. وشركات الإنترنت العملاقة هي شركات إعلامية كبرى تتظاهر بكونها منصات محايدة تتغذى على العائدات التي كانت يوماً ما تحافظ على بقاء عالم الإعلام القديم مع التنصل من الأشكال الطبيعية للمسؤولية التحريرية. وتعد المنتجات الرئيسية لتلك الشركات هي شكل لا مركزي يولّد كمّاً هائلاً من المعلومات، ويغذي كلاً من الرهاب الشعبوي وهيستريا الوسط المعتدل.
على الجانب الآخر، يرأس قادة تلك الشركات حكومات زائفة انتقالية، ويتمتعون بنفوذ سياسي تقليدي من رقابة ثقافية ونفي سياسي وتشكيل للأسواق الكبرى، لكن من دون وجود أي خطوط واضحة من المسؤولية السياسية. وتمثل كيفية التكيف مع تلك التحديات مشروعاً سياسياً متعلقاً بالأجيال، وهناك إمكانية كبيرة بأن يتغلب كهنة «فيسبوك» وجمهورية «أمازون» على المحاولات التي تبذلها جمهوريات العالم الحقيقي من أجل تقييد قوتهم.
مع ذلك، هناك نقطة يمكن البدء منها تخلو نسبياً من المعضلات السياسية التي تلقي بظلالها على أكثر الخطط الرامية إلى تنظيم الإنترنت، حيث يمكننا محاولة قطع الصلة بين عدد أكبر من الأطفال والمراهقين وبين مواقع التواصل الاجتماعي. تناولت صحيفة «وول ستريت جورنال» منذ أسبوعين ما تكشفه الأبحاث الداخلية في موقع «فيسبوك» عن تأثير موقع «إنستغرام»، الذي يقوم على الصور، على الحالة الذهنية لنحو 22 مليون مراهق يستخدمونه في الولايات المتحدة يومياً. لن تكون النتائج مفاجئة لأي شخص متابع للتوجهات الاجتماعية منذ بدء حقبة مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى أي شخص يعرف شخصاً آخر لديه أبناء مراهقون. وقد أشارت الوثائق الداخلية إلى أن استخدام الموقع يؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب والقلق، والتفكير في الانتحار، إلى جانب مشكلات في الصورة الذهنية عن الجسم في حالة الفتيات المراهقات. وتلك النتائج ما هي إلا نتائج أولية تربط بين استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وتعاسة الشباب، وحين يُثار ذلك النوع من المعلومات في النقاش العام المجتمعي يكون هناك ردا فعل أساسيان.
من جانب، هناك المشككون الذين يخشون الذعر الأخلاقي ويميلون إلى اعتماد قرينة الشك لصالح التكنولوجيا الجديدة، ويحاولون تقسيم البيانات من أجل القول، إن العلاقة غير سببية، فربما يكون الأطفال الذين يميلون إلى التعاسة يقضون وقتاً أطول على الإنترنت وما شابه من مزاعم، أو يشيرون إلى وجود مشكلات في تلك الدراسات. تفترض تلك الاستجابات، أن الدعوة إلى وضع قيود على منتج يحب الناس استخدامه أمر خطير أو منافٍ للحرية؛ لذا يقع العبء على الداعين إلى وضع القيود لتقديم أدلة على ما يرونه من خطر.
على الجانب الآخر، هناك أولئك الذين يميلون إلى تصديق الأدلة التي تشير إلى أضرار مواقع التواصل الاجتماعي، ويعتمل في نفوسهم غضب تجاه شركات التكنولوجيا أنفسها المتهمة بالاهتمام بأعداد مشتركيها فحسب، فتوسيع قاعدة المستخدمين الصغار ضروري للشركة التي تزيد عائداتها السنوية على 100 مليار دولار، وهي لا تريد المخاطرة بالتخلي عن انضمام أولئك الشباب إلى منصتها، بدلاً من أن تكون مسؤولة اجتماعياً، وتدرك أنهم حفنة من غريبي الأطوار الذين يحققون الثراء من إفساد العالم.
شعوري هو، أنه حين تتعامل مع أطفال لا يعد أي من ردي الفعل صحيحاً، فالكثير من المشكلات التي تتسبب فيها شركات الإنترنت تتضمن تراكم قرارات يتخذها بالغون متجاوبون. وقد ساعدت شركة «أمازون» في تجويف قلب أميركا لأن ملايين الناس يحبون الراحة والمصلحة والأسعار المنخفضة. من أسباب انتشار المعلومات المضللة المغلوطة والشائعات والأخبار الزائفة على «فيسبوك» النزوع الإنساني القوي نحو مشاركة الأمور التي تؤكد انحيازاتنا، والحماية التي يوفرها التعديل الأول لذلك الفعل في هذا البلد. وفي الوقت الذي ربما تتطلب فيها المصلحة العامة تقييد بعض قرارات البالغين، نتردد في مجتمع حر بشكل مفهوم قبل إصدار هذا النوع من الأحكام.
مع ذلك، يعد تقييد قرارات القُصّر أمراً مختلفاً، فالشخص البالغ من العمر 14 عاماً ليس لديه حق دستوري بعد في استخدام «إنستغرام» بقدر ما لديه حق دستوري في شراء زجاجة خمر خامسة. ويعد فرض قيود صارمة على حصول المراهقين على مواد أو منتجات بعينها من الأمور المعتادة في المجتمعات الليبرالية المتحررة. لذا؛ إذا أردنا التفكير في فرض قيود على تجربة المراهقين على «إنستغرام»، فسنحتاج على الأرجح إلى ما هو أكثر من مجرد غضب شعبي عام تجاه غريبي الأطوار المتهورين في وادي السيليكون. سيكون الوضع مثالياً إذا قامت الشركات المسؤولة عن مواقع التواصل الاجتماعي بتنظيم عملها وعلاقتها بالمراهقين، لكن عادة لا يحدث مثل هذا التنظيم الذاتي إلا تحت تهديد خارجي أو عند وجود إجماع جديد على ما يعد تقديمه للأطفال مقبولاً. مع ذلك، ما هو هذا الإجماع؟ وما هي الأعراف التي نتوقع من موقع «إنستغرام» أو أي شركة أخرى اتباعها؟ في ضوء البيانات، ما هي القواعد التي ينبغي عليهم الالتزام بها؟
إذا كانت إجابتك هي أنه من الضروري إجبارهم على اختراع خوارزميات رياضية لا تغذي مشاعر الاكتئاب أو القلق، فلن أتعامل مع غضبك بجدية، حيث إنك تهيئنا لمستقبل من الوعود العامة اللانهائية بتعديل الخوارزميات الرياضية التي تجمعت لتشكل ضغطاً متوارياً من أجل تحقيق أكبر أرقام ولعن الآثار على الصحة الذهنية. إذا كنت تريد حقاً اتخاذ خطوات احترازية تقيد فعلياً أي ضرر تتسبب فيه مواقع التواصل الاجتماعي، فينبغي أن تكون تلك الخطوات أبسط وأقوى، وهي إنشاء عالم يكون من المفهوم فيه أن مواقع التواصل الاجتماعي للبالغين، وأنه على المواقع الكبرى تقييد عضويتها، ومحاولة إبعاد الأطفال الذين هم أقل من 16 أو 18 عاماً عنها.
ما الذي سيكون مفقوداً في مثل هذا العالم؟ يُقال إن مواقع التواصل الاجتماعي تقدم أشكالاً ضرورية من الاتصال والانتماء للأطفال المنعزلين والتعساء في بيئاتهم الحقيقية على الأرض؛ وإنها تقدم منافذ للأطفال للتعبير بإبداع عن أنفسهم، والتطور كفنانين ومبتكرين، رغم أن الاعتقاد بأن «تيك توك» تطبيق عبقري ثري من الناحية الجمالية محض وهم تغذيه مجموعة من البالغين تفتقر إلى الثقة بالذات الضرورية لتعليم أطفالها التمييز بين السمين والغثّ.
في كلتا الحالتين، في مثل ذلك العالم الذي لا يمكن فيه لـ«إنستغرام» الاعتماد على أشخاص في الخامسة عشرة من العمر في الاستفادة من مزاياه، تظل بعض من تلك الفوائد المزعومة لمواقع التواصل الاجتماعي متاحة من خلال شبكة الإنترنت التي تقدم كل أشكال التواصل المجتمعي ومنافذ التعبير عن الإبداع قبل ظهور «تويتر» و«فيسبوك».
من هذا المنظور، لا تتعلق المشكلة الأساسية لمواقع التواصل الاجتماعي بوجودها على الإنترنت، بل بنطاقها؛ فكما ذكر كريس هييز في إحدى مقالاته مؤخراً في صحيفة «ذا نيويوركر»، يجعل الإنترنت المعاصر «تجربة الشهرة النفسية» عالمية، ويأخذ «كل الآليات العلاقات الإنسانية ويوظفها» سعياً وراء المزيد، لكن ذلك يحدث بطريقة أكثر عمقاً على شبكة مثل «إنستغرام» بكل ما لديها من ملايين المستخدمين.
ربما لن يكون إنقاذ أولئك البالغين ممكناً، لكن «ترويض» الإنترنت كافٍ للحفاظ على طفولة خالية من أسوأ انحرافاته؛ ولو لم نتمكن من تحقيق ذلك فنحن نستحق إذن أي مستقبل قاتم تعدّه وتقدمه لنا الخوارزميات الرياضية.
* خدمة «نيويورك تايمز»