يُذكر أن الشراكة الجديدة التي أُعلنت مؤخراً بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والتي ستحصل أستراليا بموجبها على غواصات تعمل بالطاقة النووية، قد تركت فرنسا غاضبة ومصدومة. وليس فقط بسبب فقدان صفقة خاصة بهم، تم توقيعها في 2016، لتزويد أستراليا بالغواصات.
يقول المسؤولون الفرنسيون إنهم تعرضوا للخداع والمخاتلة من قبل الحلفاء المقربين الذين تفاوضوا من وراء ظهورهم. وكان الشعور بالخيانة بالغ الحد إلى الدرجة التي جعلت الرئيس إيمانويل ماكرون يختار - على نحو غير معهود - التزام الصمت التام بشأن القضية، وفوّض وزير خارجيته جان إيف لودريان للإعراب عن الغضب الرسمي الشديد. وعندما سُئل في التلفزيون العام عما إذا كان سلوك الرئيس بايدن يذكرنا بسلوك سلفه، أجاب لودريان «أجل، من دون التغريدات».
إن التداعيات هنا هي أكثر بكثير من صفقة تجارية تم إلغاؤها؛ إذ يتعلق الأمر بجرح عميق نال من الكبرياء الفرنسي العريق. لقد كشفت هذه الصدمة الدبلوماسية المفاجئة، عن القواعد غير المكتوبة التي تحكم المنافسة بين القوى العظمى، والتي لا تستطيع فرنسا أن تلعب فيها ما لم تحمل ثقل الاتحاد الأوروبي من خلفها. كان ما حدث يدور حول التاريخ الجغرافي السياسي في القرن الواحد والعشرين، فضلاً عن الضبط بالغ القسوة للتحالفات القديمة وفق الحقائق الجديدة.
إن فرنسا تعتبر نفسها «قوة مقيمة» في منطقة المحيطين الهندي والهادي، التي تشكل ساحة معركة التنافس الحاسمة بين الولايات المتحدة والصين؛ ذلك لأنها تمتلك العديد من الجزر، ولديها أربع قواعد بحرية في المنطقة. وقد صاغت استراتيجيتها الخاصة بالمنطقة في عام 2018، وهي ما فتئت تدفع منذ ذلك الحين لأن يخرج الاتحاد الأوروبي بمشروع مماثل. ومن المفارقات، أن استراتيجية الاتحاد الأوروبي في المحيطين الهندي والهادي طُرحت في اليوم نفسه الذي أُذيع فيه نبأ الإعلان عن الاتفاق المعروف إعلامياً باسم «أوكوس». كانت الخطة، بالطبع، قد غرقت في خضم الضجيج المصاحب للإعلان.
كانت أستراليا هي مفتاح الاستراتيجية الفرنسية. وإلى جانب صفقة بيع الغواصات، تنبأت فرنسا بإقامة شراكة مع أستراليا من شأنها إضافة دعامة مهمة إلى تواجدها في المنطقة. الآن، دخلت الخطة كلها في حالة من الفوضى. ومن وجهة النظر الفرنسية، فإن البرنامج الجديد الذي أنشأه الأميركيون في أستراليا هائل للغاية، ويشتمل على الأمن السيبراني والاستخبارات، إلى الحد الذي لا يترك مجالاً لأي مبادرة أخرى. ومن أجل إعادة بناء استراتيجيتها الإقليمية، تتحرك فرنسا الآن صوب الهند، التي تتعاون معها بشكل وثيق فعلاً.
وفي هذا الإطار، تجري عملية إعادة تنظيم التحالفات في المنطقة، والتي تغلب عليها الولايات المتحدة بمراعاة حلفائها إلى حد كبير كما أظهرت في الانسحاب الكارثي الأخير من أفغانستان. فالنظام العالمي يتغير مع تكاثر التحالفات. وتجدر الإشارة إلى أن المجال الإنجليزي، الذي يزداد إحكاماً حول شبكة «العيون الخمس» لتبادل المعلومات الاستخبارية - التي تضم الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، وأستراليا، ونيوزيلندا - يعيد ترتيب الصفوف في جنوب المحيط الهادي، مما لا يترك مجالاً لأوروبا القارية، حتى رغم وجود المصالح المشتركة بينهم.
يبدو الأمر وكأن فترة زمنية طويلة قد مرت على سياسة «لمّ الشمل العائلي» الدافئة للسيد بايدن مع حلفائه الأوروبيين في مقر حلف الناتو في بروكسل في يونيو (حزيران) الماضي. ومن ثم، وبناءً على إلحاح السيد بايدن، اتحد الزعماء في إعلان الصين خطراً أمنياً قائماً، على الرغم من اعتراض فرنسا وألمانيا بأن الصين ليست جزءاً من اختصاص الحلف. والآن، ومن أجل التصدي لهذا التحدي، نُبذت فرنسا جانباً.
ولا يشكك الفرنسيون في أن إدارة بايدن تتعمد المناورة لتقسيم أوروبا - وهي الحيلة القديمة للرئيس الأسبق دونالد ترمب - ولكنهم ينتقدون الإدارة الجديدة لسوء تقدير تداعيات سياساتها القاسية الخرقاء. وقد أبلغني دبلوماسي فرنسي أن القيادة الأميركية تختلف عن الشراكة الأميركية. وأنه في شبكة «العيون الخمس»، على سبيل المثال، هناك قائد واحد - والآخرون هم مجرد شركاء صغار.
وهذا من شأنه إثارة العديد من التساؤلات الصعبة بالنسبة لأوروبا. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لشبكة «سي إن إن» الأميركية، إن الطريقة التي عوملت بها فرنسا «غير مقبولة». ولكن إحجام بعض الزعماء الأوروبيين عن الاستجابة العلنية للأزمة يعكس عدم اليقين الذي أبدوه بشأن كيفية التعامل مع الولايات المتحدة والصين. ومع استمرار التوترات بين القوتين في الارتفاع، فقد لا يحظى زعماء أوروبا بترف التناقض لفترة طويلة.
لدى الولايات المتحدة أيضاً تساؤلات تطلب الإجابة عنها: هل تساهم الشراكة مع المملكة المتحدة لما بعد خروج بريطانيا - في هذه المرحلة الدقيقة من علاقتها بالاتحاد الأوروبي وإهانة فرنسا - في استقرار أوروبا ووحدة الغرب؟ إذا كانت واشنطن تريد حقاً من حلفائها الأوروبيين تولي مسؤولية جيرانهم، فهل هي مستعدة لقبول مفهوم السيادة الأوروبية، بما في ذلك في مجال المشتريات الدفاعية؟ وماذا تريد لمستقبل حلف الناتو؟
ومع استشعار الفرنسيين للشكوك المتزايدة لدى بعض شركائهم في الاتحاد الأوروبي بشأن التزام الولايات المتحدة، فإنهم سيحاولون الآن ممارسة الضغوط من أجل أوروبا الأكثر استقلالاً وسيادة، مع زيادة قدراتهم على العمل عسكرياً ودبلوماسياً. لكن الوهم بأن الفرنسيين قد يكونون شريكاً للولايات المتحدة ضمن علاقة أكثر توازناً في ظل إدارة بايدن - متحالفين ولكن غير منحازين - يبدو أنه قد تلاشى.
لدى المجال الإنجليزي تعبير منمق عن هذا الوهم: اللعب فوق مستوى القدرات الحالية. وعلى نحو ذي دلالة، فإنه مصطلح لا تسهل ترجمته إلى اللغة الفرنسية.
* خدمة «نيويورك تايمز»