رمزي عز الدين رمزي
سفير مصري ومسؤول أممي سابق
TT

كارثة أفغانستان محنة وفرصة

منذ الانسحاب الأميركي الكارثي من أفغانستان، تغمر الساحة تحليلات عديدة لتفسير أسباب فشل سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة على مدى عقود عديدة، بعضها للأسف ضحية للاستقطاب السياسي الذي أضعف النظام السياسي الأميركي على مر السنوات الماضية.
فالمجتمع الأميركي سوف يكون في حالة جدل لسنوات قادمة بشأن الدروس المستفادة من تلك التجربة: بين المدرستين الواقعية والمثالية، وبين أنصار التدخل الليبرالي، والمحافظين الجدد، والانعزاليين، والليبراليين الدوليين... إلخ.
أما بالنسبة للمجتمع الدولي، فالأمر سيتعلق بكيفية إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة القوى العظمى التي فقدت هيمنتها على النظام الدولي. إن الكارثة في أفغانستان هي في الواقع تخص النظام الأميركي بأكمله، على عدة مستويات: سياسية وعسكرية واستخباراتية، وكذا في مجالات عدة؛ أهمها التنسيق والتواصل. يبدو أن القائمة لا تنتهي. لكنه في الأساس فشل لمؤسسة السياسة الخارجية الأميركية في التنبؤ واستقراء المستقبل وصنع السياسة. كما أنه فشل في فهم تاريخ وثقافة البلدان التي تقرر الولايات المتحدة التدخل فيها بسبب الإخفاق في التواصل مع سكان البلاد والاعتماد إلى حد كبير على أهلها من المغتربين. لكن المأساة الأخطر هو ربط سياسة التدخل الإنساني بأوهام فاعلية القوة العسكرية. وربما الدرس الأهم أنه في نهاية المطاف، تسعى أميركا لتحقيق مصالحها من دون الاكتراث بحلفائها وأصدقائها.
علاوة على ذلك، تمثل أفغانستان ضربة موجعة لمصداقية الولايات المتحدة ومكانتها الدولية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالاعتماد على الضمانات الأمنية الأميركية. لكن المهم بالنسبة لنا في العالم العربي هو استخلاص بعض الدروس من هذا الفشل الأميركي الذريع، لا سيما الآثار المترتبة على علاقاتنا مع الولايات المتحدة وتداعياتها على أمن دولنا الفردي والجماعي. أقول ذلك لأن بعض الدول أصبحت تعتمد في صيانة أمنها القومي - بطريقة أو بأخرى - على الولايات المتحدة.
فإذا لم تلتزم الولايات المتحدة القتال ضد «طالبان» في أفغانستان، حيث استثمرت كثيراً من الدماء والأموال على مدار عقدين، فهل ستكون على استعداد لاتخاذ الإجراءات اللازمة في مساعدة الدول العربية حماية أمنها ضد إيران وتركيا وإسرائيل.
كذلك فإن كانت كارثة أفغانستان تمثل أزمة في مصداقية الولايات المتحدة، فإنها تمثل أيضاً أزمة تلوح في الأفق بالنسبة للدول العربية. ولكن هنا من الأهمية أن نسترجع مقولة «أن في كل أزمة توجد فرصة»، لذلك ينبغي أن نتطلع إلى الأمام وخلق تلك الفرصة لتعزيز مصالحنا.
وهنا نعود إلى التاريخ لاستخلاص العبر، ففي عام 1975 بعد كارثة فيتنام، سعت الولايات المتحدة إلى إعادة مصداقيتها الدولية بوسائل مختلفة، كان من ضمنها السعي إلى استعادة الثقة مع حلفائها وأصدقائها، وليس من المستبعد أبداً أن تقدم الآن على ذلك مرة أخرى.
في خواتيم حرب فيتنام بين 1973 - 1975 وفي خضم أزمة ووترغيت، استغلت إدارة نيكسون حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 لتخفيض حدة الصراع العربي الإسرائيلي.
فرغم أن الظروف اليوم غير التي كانت سائدة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، حيث انتهت الحرب الباردة، وأصبحت الصين قوة كبرى صاعدة بما في ذلك في الشرق الأوسط، وتغيرت العلاقة بين الدول العربية وإسرائيل، وأصبحت كل من إيران وتركيا قوتين إقليميتين، والمربع العربي الفاعل لم يعد قائماً، إضافة إلى ذلك فقد تطور الإسلام السياسي بالشكل الذي أصبح يهدد نموذج الدولة الوطنية في المنطقة. علاوة على ذلك لم يعد الشرق الأوسط يتمتع بنفس القيمة الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة كما كان الحال في السبعينات.
ولذلك ليس من المستغرب وجود اتجاه قوى في الولايات المتحدة يطالب بفك الارتباط بالشرق الأوسط.
ولكن في الوقت ذاته هناك اتجاه آخر يرى أن كارثة أفغانستان تمثل تحدياً وفرصة، كي تثبت الولايات المتحدة أن مكمن قوتها الحقيقة - وهي القدرة على التكيف والارتجال والإبداع - لا تزال قائمة.
في اعتقادي أن المجتمع الدولي عند تقييمه لمدى قدرة الولايات المتحدة في تجاوز كبوتها في أفغانستان واستعادة مصداقيتها الدولية سينظر إلى ما ستقدم عليه في منطقة الشرق الأوسط. وفي اعتقادي أيضاً أن تحرك الولايات المتحدة في اتجاه تنشيط جهود تسوية الأزمات في الشرق الأوسط سيسمح لها بالتركيز بالقدر المطلوب على التعامل مع ما تراه من تهديدات نابعة من الصين والقضايا العابرة للحدود.
فالدول العربية كغيرها من الدول - بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا - عليها إعادة تقييم استراتيجية أمنها القومي. ولا شك أن ثقتها بالولايات المتحدة سوف تستمر في التناقص إذا أخفقت واشنطن في اتخاذ موقف بارز وفعال لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. ولكن في الوقت نفسه يجب أن ندرك أن الولايات المتحدة لم تعد لديها الإرادة السياسية ولا القدرة على القيام بذلك بمفردها، الأمر الذي يضع الدول العربية أمام مسؤولية دفع واشنطن إلى ذلك. فزيارة وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين الأخيرة لقطر رغم أهميتها، لا تغني عن ضرورة اتخاذ مواقف وإجراءات عملية ملموسة لتعزيز مصداقية الولايات المتحدة.
إن قبول الولايات المتحدة بحكم «طالبان» في أفغانستان - دولة ضعيفة ومعزولة إلى حد ما – شيء، والرضوخ لفرض الإسلام السياسي في الدول العربية أمر مختلف تماماً. كما أن التعاون مع تركيا للتخفيف من العواقب الخطيرة للانسحاب من أفغانستان يختلف تماماً عن الظهور بالتماشي مع طموحات تركيا في الشرق الأوسط.
المطلوب في هذه المرحلة اختبار نيات الولايات المتحدة، وأعتقد أن كل سوريا والعراق والصراع الفلسطيني الإسرائيلي توفر الأرضية المناسبة لذلك: فعلى واشنطن أن تثبت بشكل ملموس وعملي أنها لا تشارك أنقرة حلمها في المنطقة، وفي الوقت نفسه عليها أن تأخذ في عين الاعتبار المخاوف الأمنية العربية خلال مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني، كما أنها حريصة على الإسهام بشكل عملي وفعال في استرجاع الحقوق العربية، خصوصاً الفلسطينية. فمن المهم أن تدرك الولايات المتحدة أن الفشل في هذا الاختبار سيكون من شأنه مزيد من تراجع مصداقيتها لدى العرب. وفي الوقت نفسه سيكون على الدول العربية إقناع واشنطن أن مستقبل العلاقات مرتبط بمدى جديتها العمل من أجل مواجهة الهواجس الأمنية العربية، وأن إخفاقها في ذلك سيدفع الدول العربية إلى البحث في مكان آخر لتأمين حقوقهم ومصالحهم.
فالولايات المتحدة أمام خيارين في الشرق الأوسط: إما الانسحاب وتركه لمصيره، أو أن تستفيد من تجاربها ليس فقط من أفغانستان وفيتنام، وإنما كذلك العراق وسوريا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتقدم آفاقاً جديدة من خلال التعاون مع دول الشرق الأوسط لإيجاد حلول للأزمات المنطقة تفضي إلى إقامة نظام أمني إقليمي. ففي نهاية المطاف، سيتعين على واشنطن أن تتحمل عواقب قرارها، فالشرق الأوسط دائماً يفرض نفسه ليس فقط على الولايات المتحدة وإنما على العالم بأسره.
في هذا الصدد، يمكن أن تكون الخطوة الأولى في هذا الاتجاه بداية حوار جاد وصريح، بين كل من مصر والأردن والعراق ودول مجلس التعاون الخليجي حول التهديدات الأمنية التي تتعرض لها هذه الدول.