زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

الإرادة بين وخز الضمير أو الرضا عن الذات!

لماذا تشعر بالإحباط عندما تفشل في أمر ما؟ ولماذا يكون العكس صحيحاً عندما تنجزه حيث تشعر بالرضا وتغمرك السعادة والثقة؟ يبدو أن السر يكمن في علاقتك بالإرادة... ولكن كيف؟ الحقيقة أن الأمر هنا يتعلق بطبيعة الإرادة وتوجهها من حيث إنها إيجابية أم سلبية، وبالتالي فالنتيجة تعتمد على ذلك بكل تأكيد، كون الإرادة هنا متفاعلة ومؤثرة في كلتا الحالتين بدليل ما تفرزه من تأثير على القرار الذي يتخذه الإنسان، ولذلك فاتجاهها الإيجابي أو السلبي هو الذي يدفعك إما للنجاح أو الفشل.
وقد قيل إن العالم في حقيقته ما هو إلا إرادة، بمعنى أن يكون متخماً بالعذاب والألم. فالإرادة لا تعني سوى الرغبة، وطالما كانت هي رغبة فإن (عدم الإشباع) صفة من صفاتها، كأنها -كما رآها ول ديورانت- كالصدقة التي ندفعها للفقير تغنيه عن الجوع اليوم ليواجه الفقر والبؤس غداً، أي إنه يتعذر إشباعها (فالرغبات تتوالد)، والإنسان يحمل في داخله إرادة جائعة، إن جاز التعبير، فإن أزاحها (أي حقق مبتغاها) حلّت مكانها على الفور رغبة أخرى... وهكذا إلى ما لا نهاية.
شوبنهور، وفي كتابه «العالم كإرادة وفكرة» أثار هذه النقطة تحديداً، وغاص في أعماقها، وتوصل إلى أن شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وليس في عقله، فالدم الذي يجري في الجسم، الإرادة هي التي تدفعه، والعقل قد يتعب، أما الإرادة فإنها تعمل حتى في حالة النوم. فيصور الحياة كأنها شر، لأنه «كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالاً ازداد العذاب وضوحاً»، فيقول «إن زيادة المعرفة في الإنسان تؤدي إلى زيادة آلامه، كما أن ذاكرة الإنسان وبُعد نظره يزيدان في آلامه، لأن الشطر الأكبر من آلامنا كامن في تأمل الماضي أو في التفكير بما سيقع في المستقبل».
على أي حال، من الواضح أن ثمة أزمة نعاني منها، محيطها الأخلاق والوعي والفهم والقيم والثقافة، والمعضلة تتضح في الوحل المادي الذي غرق البعض منّا فيه، وبات همه السعي خلف الرغبات والشهوات والملذات، كأن الحياة ما هي إلا حلبة لإبراز قدراته النرجسية وفرديته المغالية في الاستحواذ، ناهيك بفئة أخرى احتقرت الدنيا والذات وفقاً لقناعات ليست بالضرورة أن تكون صحيحة، فكانت نهايتها إما التقوقع ورفض المجتمع وإما الانتحار والموت الحزين. يبدو أن الإرادة الإيجابية تدفع باتجاه النجاح والإنجاز في حين أن الإرادة السلبية تقود إلى الفشل والخذلان والسقوط.
غير أن الإرادة في عالمنا لا بد أن تنطلق من الإنسان ذاته. فهل يعيش الإنسان صراعاً ذاتياً ما بين طموحه وشهواته... ما بين النجاح والفشل... ما بين رغبة في الصعود والخشية من الانحدار؟ يرى الفيلسوف نيتشه أن كل ظاهرة في العالم هي، على الأقل، علاقة بين قوتين: إحداهما تهاجم والأخرى تقاوم، وكلتاهما تدخل في صراع مع الأخرى. وهذا الصراع يؤثر على بقية القوى الأخرى كافة. فمفاهيم إرادة القوة لا يمكن أن تتشكل إلا من ثنائية وهي الحد الأدنى لها.
يقول نيتشه في هذه الجزئية تحديداً «لا يمكن أن تظهر إرادة القوة إلا من خلال علاقة مقاومة. إنها تبحث عمّن يقاومها... وتبحث عن المواجهات، والصراعات. إنها تبحث إذاً، ونسبياً عن وحدات عليا محددة». والوحدة التي يقصدها هنا يجب فهمها كوحدة تضم علاقة قوى، أي هجوم ومقاومة، فعل ورد فعل.
والصورة الأكثر شمولية لإرادة القوة هي إذاً الفعل ضد قوى ومقاومة هذه القوى لها. بمعنى آخر، هناك إرادة الإنجاز والنشاط والتفاعل وتقابلها إرادة معاكسة تتمثل في الكسل والخمول والإهمال. ولو أردنا وصف ما يحصل لكل قوة من خلال إرادة القوة كعلاقة، فإنه يجب القول إن كل قوة تبسط هيمنتها وتسلطها على القوى الأخرى في الوقت نفسه الذي تقوم فيه القوى الأخرى بمقاومة هذه القوة. لذلك فإن عزل أي قوة ليس له معنى يذكر. فكل تنازع داخل ذات الإنسان يجب رؤيته كتعبير عن مباراة بين طرفين أو أكثر وصراع قوى بعضها ضد بعض. والشيء نفسه يصدق على العالم في كليته، فهو ليس إلا عالماً من علاقات القوى حيث يرى أنه: «لا يوجد عالم في ذاته: إنه أساساً عالم علاقة».
على أن الرغبة لها تفسير سببي وتفسير علّي، وثمة فارق بينهما، ولعل في مثال د.عبد المنعم الحفني توضيحاً للفارق بين هاتين المترادفتين في علم الفلسفة، فلو ذهبت إلى السوق لشراء الخبز، فإن سبب ذهابك يكون الخبز أو شراءه، (وهو قصد تريده وتتكلف له)، بينما علة ذهابك هي اعتقادك بأن بيتك يخلو من الخبز، أو إحساسك بالتعاطف مع أسرتك.
على أي حال، يبقى الإنسان وقصته مع الإرادة لغزاً عميقاً، لا يمكن اختزاله بهذه الصورة، ولكنه مدخل رئيسي في تعامل هذا الإنسان مع ما يحيط به من أدوات ووسائل معرفية ومعلوماتية في وقت لم يعد يمتلك فيه القدرة على التوقف، فرتمُه سريع هادر، ما جعل هذا الإنسان في موقف اللاهث والمطارد بين إشباع رغباته وملاحقته لتطورات الراهن المتغير.
وحين التأمل في طبيعة هذا السلوك وبالتالي في إفرازات هذه الثقافة المنتجة، فإنه يمكن تحليل قدرة إرادة هذا الإنسان وتشريح رغباتها، ومن ثم الوصول إلى وضع صاحبها (أي الإنسان) في مكانه اللائق به.