فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

روسيا وأفغانستان... البحث عن نهج جديد

لقد أربكت الديناميكية السريعة والمذهلة للأحداث في أفغانستان وحولها كلاً من الأفغان أنفسهم واللاعبين الخارجيين، الذين لم يكونوا، بمن فيهم مثيرو الشغب الرئيسيون أنفسهم، أي الأميركيون، مستعدين تماماً لمثل هذه المنعطفات غير المتوقعة. بدأت النخب السياسية والعسكرية في مختلف الدول، وخصوصاً جيران أفغانستان، في مناقشة السيناريوهات المحتملة لتطور الوضع، علاوة على المخاطر والتهديدات الناجمة عنها. روسيا ليست استثناء. موسكو، بعد أن تعلمت من تجربتها التاريخية، أجرت بتأنٍ حواراً سياسياً مع جميع اللاعبين في الميدان الأفغاني خلال السنوات الماضية، مؤمنة نفسها قدر الإمكان ضد مثل هذه المفاجآت. لقد بدأت أيضاً بالتفكير في التحديات والمخاطر التي قد تأتي لها ولحلفائها الجنوبيين من أفغانستان «القديمة الجديدة» الناشئة، حيث تتحول حركة «طالبان»، إلى إحدى القوى السياسية الرئيسية، إن لم يكن إلى قوة مهيمنة. لكن موسكو لا تزال تنطلق من حقيقة أن «طالبان» لا يشكلون أي تهديد مباشر لها وتميل للوثوق بوعودهم.
ومع ذلك، من الناحية الافتراضية البحتة، تلوح في الأفق المخاطر والتهديدات المحتملة. من بينها، وفقاً لعدد من المحللين، يجب أولاً تسمية الأعمال العدوانية المحتملة ضد حلفاء موسكو في آسيا الوسطى مع احتمال انتشارها إلى الأراضي الروسية من قبل تنظيم «داعش» المحظور في روسيا، وبدرجة أقل من قبل «القاعدة»، وفي حالات معينة، حتى من قبل حركة «طالبان» نفسها عبر فصائلها الشديدة التطرف. من المرجح أن تكون هذه الأعمال على شكل هجمات متفرقة، بما فيها استفزازات على الحدود. ثانياً، تهريب المخدرات، التي بات حجمها حالياً كبيراً جداً. ثالثاً، تدفق موجة هائلة من اللاجئين غير الشرعيين والشرعيين أيضاً، والتي قد تتحرك شمالاً. رابعاً، احتمال التسلل الخفي للمسلحين والدعاة المتطرفين ضمن تدفقات اللاجئين، وتجنيدهم لمؤيدين جدد لأفكارهم. خامساً، ظهور وحدات مسلحة من الدول الغربية في دول آسيا الوسطى استجابة لنداء حكوماتها.
ومع ذلك، بينما استفادت روسيا بالفعل من انسحاب الأميركيين - يبدو أن جزءاً كبيراً من حكومات آسيا الوسطى والشرق الأوسط محبطون من واشنطن بسبب فشل حملتها التي استمرت عشرين عاماً لمكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية في أفغانستان، وكذلك بسبب حقيقة أن الأميركيين يتركون حلفاءهم من الذين وثقوا بهم تحت رحمة الظروف. على هذه الخلفية، تبدو روسيا، التي حققت جزءاً كبيراً من أهدافها في سوريا وأظهرت وفاءها لالتزاماتها تجاه اللاعبين المحليين، في أفضل حال. لهذا السبب بالذات تميل حكومات آسيا الوسطى اليوم إلى التقرب من روسيا وجمهورية الصين الشعبية.
في الوقت نفسه، ستحتاج روسيا في المستقبل، إلى برنامج صد للمخاطر والتهديدات المذكورة أعلاه خاص بها وبأسلوب مناسب لكل منها. أما فيما يخص تهديد اندلاع حرب واسعة النطاق بين طالبان ودول آسيا الوسطى، فهو مستبعد على الأقل في المدى القصير.
أشار السفير الأميركي السابق جون هيربست في مقابلة أجريت معه مؤخراً إلى سيناريوهين فقط لأفغانستان؛ الأول هو انتصار واستيلاء «طالبان» على السلطة، والثاني هو حرب أهلية طويلة الأمد، في حال «إذا تمكن أشرف غني من تنظيم مقاومة فعالة ضدهم». في الواقع هناك المزيد من السيناريوهات. السيناريو التفاؤلي، هو تشكيل «طالبان» لحكومة شاملة في هذه المرحلة وانتقال سلمي للسلطة. بيد أن الوضع داخل حركة «طالبان» غير معروف لنا. إذ لا أحد يضمن عدم إمكانية اندلاع التنافس والعداوة بين مختلف الفصائل أو الأفراد داخل الحركة بعد وصولهم إلى السلطة.
مهما كان الأمر، فإن أقوال وأفعال موسكو تقنع بأن السياسة الروسية فيما يتعلق بالأزمة في أفغانستان تقوم، أولاً وقبل كل شيء، على مبدأ عدم التدخل، الذي يستبعد تماماً إرسال فرق مسلحة إلى هناك في أي سيناريو كان. الحد الأقصى الذي ستكون موسكو مستعدة للقيام به في حالة وقوع أعمال عدوانية عسكرية أو إرهابية منطلقة من أفغانستان ضدها (أو ضد حلفائها)، هو توجيه ضربات جوية ضد قواعد الإرهابيين. لكن في الوقت الحالي يمكننا التحدث فقط افتراضياً عن مثل هذا سيناريو. هذا المبدأ يستثني أيضاً تقديم أي مساعدة عسكرية أو عسكرية فنية لأي من الأطراف المتصارعة، رغم أن موسكو تحتفظ بعلاقات رسمية مع كابل. بالمناسبة، إذا فرضت طالبان سيطرة صارمة على المناطق الحدودية في شمال أفغانستان (رغم أنه من السابق لأوانه الحديث عن ذلك)، فإن هذا يستبعد من الناحية الفنية إرسال الحمولات عبر الحدود من أي جهة كانت إلى القوى التي تجابههم، باستثناء الطريق الجوي، هذا ما لم تتحول جبهة المقاومة الطاجيكية الأوزبكية التي تتشكل في الشمال إلى قوة يمكنها إبعاد الفصائل البشتونية من هناك.
المبدأ الثاني الذي تتبعه موسكو حالياً هو مساعدة دول آسيا الوسطى في تعزيز الحدود، وكذلك في تدريب وتجهيز قواتها المسلحة. ويجري في إطار هذه الاستراتيجية أيضاً، تعزيز القواعد العسكرية الروسية الموجودة على أراضي طاجيكستان وقيرغيزستان. ورداً على سؤال رئيس تحرير إذاعة «صدى موسكو» حول سبب قيام موسكو الآن بتعزيز وجودها في طاجيكستان، أكد المبعوث الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان زامير كابولوف يوم 22 يوليو (تموز) أنه يجب التحضير للمستقبل وليس البدء بالعمل «بعد أن يشب الحريق». بعبارة أخرى، لا تزال تصرفات موسكو في هذا الاتجاه تتسم بطبيعة وقائية حصرية.
المبدأ الثالث هو الحوار البناء مع اللاعبين الداخليين والخارجيين العالميين والإقليميين القادرين بطريقة أو بأخرى على التأثير في الوضع حول أفغانستان. علاوة على ذلك، في المقابلة نفسها، أكد كابولوف أن مصالح روسيا والولايات المتحدة تتطابق هنا، ذلك لأنه قد «اختفت تلك الشوكة» الآن. هنا، بالطبع، كان يقصد وجود القوات الأميركية في أفغانستان، التي طالبت موسكو بسحبها منذ فترة طويلة. وأضاف ممازحاً: «شكراً لطالبان على ذلك».
في الوقت نفسه، عبر كابولوف عن فكرة غير عادية للغاية. إذ وصف أفغانستان بأنها «جزء من النطاق الخارجي للأمن القومي الروسي». من المحتمل أن يكون تطابق المصالح مع الولايات المتحدة المشار إليه أعلاه قد حدد مسبقاً موقف موسكو الإيجابي تجاه شكل صيغة «الترويكا بلس» والاجتماعات الاستشارية بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية بمشاركة باكستان وطالبان والحكومة في كابل. وفقاً لكابولوف، فهو على اتصال دائم مع نظيره الأميركي زلماي خليل زاد: «نتراسل، ونتواصل عبر الهاتف، نقول ماذا يمكن فعله بعد ذلك - ومن يدري؟ - إذاً لنفكر». لكنه من خلال تفاعله مع زملائه الأميركيين، خلص كابولوف، الذي أمضى سنوات عديدة في كابل، بما في ذلك من خلال عمله سفيراً لروسيا، إلى أن واشنطن ليس لديها استراتيجية في أفغانستان. وتجدر الإشارة إلى أن اجتماع مجموعة «ترويكا بلس»، الذي بدأ في 10 أغسطس (آب)، يبدو أنه أدى إلى بعض الاتفاقات حول تسوية أفغانية لا تزال بحاجة إلى تحليل. دعونا نر ما إذا تم إقناع طالبان (المهتمين جداً بالاعتراف الدولي) بالالتزام بوقف إطلاق النار المؤقت والطبيعة السلمية لانتقال السلطة.
ما يثير الفضول أيضاً هو اعتراف المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى أفغانستان ضمن جوابه رداً على سؤال حول من لديه نفس نهج روسيا من بين شركائها. إنها ليست الهند، كما هو متوقع، وإنما باكستان، التي أعلن قادتها، كما يؤكد كابولوف، أنهم في الماضي، «اتبعوا أمراً خاطئاً بخدمتهم لمصالح الولايات المتحدة في الحرب ضد الاتحاد السوفياتي». وواصل: «باكستان لاعب مهم، إن لم تكن اللاعب الأهم في سياق التسوية الأفغانية». يمكن اعتبار التعاون الوثيق مع باكستان اليوم أيضاً أحد مبادئ السياسة الروسية تجاه المشكلة الأفغانية.
موقف آخر لفت انتباهي في مقابلة المبعوث الخاص للرئيس الروسي، يتعلق بالهيكل المستقبلي للحكم في أفغانستان، والذي بالمناسبة، تراه «طالبان» حصرياً في شكل إمارة إسلامية. أما الآن؟ أما الآن قال كابولوف: «لقد كنت مصمما دائماً على أن الحكومة يجب أن تكون ائتلافية. هذا، بالطبع، أمر مزعج للغاية بالنسبة لحكومة كابل، لكن سوف يتجاوزونه». المنطق بسيط: من أجل أن تحكم بمفردها، كان على القوات الحكومية هزيمة «هؤلاء الثوار»، وبما أنهم لم يتمكنوا من ذلك، كان عليهم تقديم تنازلات. وطالبان لم يستطيعوا تحقيق النصر، لذا فهم بحاجة أيضاً إلى التفاوض مع حكومة كابل. من المثير للاهتمام، وفقاً لكابولوف، أنه شخصياً لديه اتصالات أفضل مع «طالبان» مقارنة باتصالاته مع الحكومة، لأن الحكومة لا يعجبها حقيقة أنه يسعى إلى تشكيل حكومة ائتلافية انتقالية.
في الختام، آخر نقطة مثيرة للاهتمام في المقابلة. جوهرها هو أنه سيكون من الأفضل تحويل «الرباعية» إلى «خماسية»، لأن الدور الذي يمكن أن تلعبه إيران في التسوية الأفغانية كبير لا يمكن إنكاره. لكن حتى الآن، يبدو أن الشركاء لا يسمحون لموسكو بإشراك طهران في هذه الصيغة.
* خاص بـ «الشرق الأوسط»