د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

أبعاد «الكتلة التصويتية» لأفريقيا في المحافل الدولية

أظهرت أزمة سد النهضة ونقاشها في إطار الاتحاد الأفريقي، ومؤخراً تحت مظلة مجلس الأمن الدولي في الأمم المتحدة، أهمية الفاعل الأفريقي في تلك النقاشات وتهافت وتسابق قوى دولية وإقليمية نحو القارة الأفريقية.
ويعود سبب ذلك لما تمتلكه القارة السمراء من موارد طبيعية متنوعة، ما يكسبها أهمية اقتصادية، وبسبب تحكمها في ممرات مائية مهمة مثل مضيق جبل طارق، وقناة السويس، ومضيق باب المندب، الأمر الذي يكسبها أهمية استراتيجية وبسبب تعداد سكانها الذي يتخطى مليار نسمة، وتشكل بالنسبة للدول الصناعية سوقاً استهلاكية لا بأس بها، لكن ما يهمنا من كل ذلك في موضوع مقالنا هو التركيز على ما تشكله دول القارة من كتلة تصويتية مهمة في المنظمات الدولية، ما يكسبها أهمية سياسية ودبلوماسية فريدة من بين بقية التجمعات الدولية، حيث تسعى قوى دولية وإقليمية إلى اجتذاب تلك الكتلة التصويتية لصالحها والتأثير فيها لحسم عدد من القضايا، في إطار الأمم المتحدة والمنظمات الأخرى عن طريق إقناعها بالتصويت لصالحها ومؤازرتها دبلوماسياً وسياسياً، أو على الأقل بعدم التصويت ضدها في المحافل الدولية،
ولهذا بعد غياب طويل عن مؤسسات الاتحاد الأفريقي دام نحو 19 سنة عادت إسرائيل مؤخراً إلى موقعها، عضواً مراقباً في الاتحاد الأفريقي، والمفارقة الصادمة هنا كيف أن ثلثي العرب الأفارقة، ومنها دول عربية من مؤسسي منظمة الوحدة الأفريقية، أو كانت وراء فكرة تحويل منظمة الوحدة الأفريقية إلى الاتحاد الأفريقي، لم تنجح في استغلال رصيدها في الداخل الأفريقي على المستوى التنظيمي كأعضاء في التنظيمين القديم والحديث، وعلى المستوى الشعبي حين كانت الدول العربية تدعم حركات التحرر الأفريقية في مرحلة نضالها ضد الاستعمار من أجل الحصول على استقلال معظم دولها، وهو الأمر الذي استطاعت الصين الشعبية بنجاح كبير استغلاله في علاقتها مع دول أفريقيا، في دعم مواقفها في المحافل الدولية، كما سنرى ذلك لاحقاً.
في البدء، تمكنت الدول العربية من كسب تعاطف دول أفريقيا السمراء مع قضيتهم القومية، المتمثلة بالقضية الفلسطينية على مستوى الأمم المتحدة، بفضل ما تمتلكه المجموعة الأفريقية من كتلة تصويتية واسعة بـ54 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما مكّنها من استصدار القرار رقم 3379، الذي اعتمد في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1975 بتصويت 72 دولة بـ«نعم»، مقابل 35 بـ«لا» (وامتناع 32 عضواً عن التصويت) لصالح القرار الذي اعتبر أن «الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري».
وأُلغي ذلك القرار بعد ذلك في ديسمبر (كانون الأول) 1991 بفعل تنامي النفوذ الإسرائيلي في القارة السمراء، وبسبب توجه العرب بنهاية حرب الخليج الثانية إلى المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام بين العرب والإسرائيليين، ما جعل بعض الدول العربية يعتقد أن النزاع العربي الإسرائيلي في طريقه إلى الحل، ولن تعد هناك حاجة إلى كتلة التصويت للدول الأفريقية في المحافل الدولية! وهو الأمر الذي استغلته إسرائيل سريعاً للتغلغل مجدداً في القارة السمراء وفكّ العزلة السياسية وإقامة علاقات دبلوماسية مع أغلب الدول الأفريقية، حيث لديها حالياً نحو 11 بعثة دبلوماسية في القارة السمراء في كل من رواندا والسنغال ومصر وأنغولا وكوت ديفوار وإثيوبيا وجنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا والكاميرون، ومؤخراً في المغرب، على أثر تطبيع العلاقات معه، وفي بعض الدول الأفريقية هناك سفير مقيم، وفي البعض الآخر سفراء غير مقيميين في دول أفريقية كثيرة، ومعنى ذلك أن لإسرائيل علاقات على مستوى سفارة مع 42 دولة أفريقية، أي بنسبة 80 في المائة تقريباً، وهي نسبة كبيرة، في حين أن 15 دولة أفريقية لديها سفارات دائمة في إسرائيل.
فقط النيجر وجيبوتي والصومال ومالي وجزر القمر ليست لها علاقات دبلوماسية حتى وقتنا الحاضر مع إسرائيل.
ويبدو، وفق بعض المراقبين، أن الدواعي المالية في الاتجاهين من جانب إسرائيل ومن جانب بعض الدول الأفريقية، حالت دون تبادل التمثيل الدبلوماسي بفتح سفارات لدى كلا الطرفين.
ويرى كثير من المحللين أن العلاقات الإسرائيلية - الأفريقية ازدهرت في عهد رئيس الوزراء السابق نتنياهو الذي ساهم بدفع أعداد كبيرة من دول أفريقيا إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وتعمد في سبيل ذلك تهميش دور وزارة الخارجية لتطوير وتوطيد تلك العلاقات مع دول أفريقيا، خاصة في المجال الأمني والمخابراتي التي توليه قيادات بعض دول أفريقيا أهمية قصوي لدرء الانقلابات على أنظمتها.
لكن سياسة نتنياهو فشلت في تحييد الكتلة التصويتية للدول الأفريقية فيما يخص ملف القضية الفلسطينية في إطار التصويت في الأمم المتحدة.
ففي عام 2018 طالبت الولايات المتحدة الأمم المتحدة بإدانة «حركة حماس» بسبب إطلاقها قذائف من غزة على الأراضي الإسرائيلية، فصوتت 7 دول أفريقية فقط من أصل 54 لصالح القرار، منها رواندا، إريتريا، ومالاوي، بينما صوتت 28 دولة ضده، و10 دول امتنعت عن التصويت، و10 دول أخرى تغيبت عن الجلسة.
وفي نوفمبر 2009، حين طلبت الأمم المتحدة التصويت حول تشكيل لجنة تحقيق دولية حول حرب غزة التي سقط فيها أكثر من 1400 قتيل لم تعترض أي دولة أفريقية على تشكيل لجنة التحقيق، التي شكلت بقيادة ريتشار غولدستون من جنوب أفريقيا، ما يظهر بوضوح أن كثيراً من الدول الأفريقية متأثرة في مواقفها بعلاقتها مع دول الخليج العربية، وواقعة تحت نفوذ قوى أفريقية بارزة، مثل الجزائر، وجنوب أفريقيا، ونيجيريا.
ولعل التصويت ذا الدلالة العميقة هو ما حدث في نوفمبر 2012 عند التصويت على القرار 19 - 67 بقبول عضوية فلسطين عضواً بصفة مراقب في الأمم المتحدة؛ حيث صوّت لصالح القرار 47 دولة أفريقية، وامتنع آخرون عن التصويت.
ونشير أخيراً إلى فشل إسرائيل في عهد نتنياهو في محاولتها تنظيم قمة أفريقية - إسرائيلية، على نمط القمم التي تعقد بين فرنسا وأفريقيا كل عامين، ومع الصين والولايات المتحدة واليابان وروسيا منذ عام 2019 وكذلك مع تركيا.
العلاقات الصينية - الأفريقية تختلف بشكل واسع عن علاقات إسرائيل بأفريقيا كما استعرضناها قبل قليل، فالصينيون يعترفون أن لديهم ما يسمونه «ديناً أخلاقياً»، واعترافاً بالجميل نحو دول القارة الأفريقية، ففي الفترة 1946 - 1971 كانت الصين الوطنية هي التي تحتل مقعد العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي بفضل الدعم الأميركي لها الذي كان يرفض الاعتراف بالصين الشعبية لنظام ماو تسي تونغ، وتغير الوضع بعد التصويت على القرار 2758 في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1971 في الجمعية العامة من الأمم المتحدة من قبل عدد كبير من الدول الشيوعية ودول عدم الانحياز وعدد كبير من دول أفريقيا لصالح الصين الشعبية التي يحلو لها الترديد بالقول؛ إن الفضل لذلك يعود إلى دول أفريقيا السمراء التي ساهمت في احتلال مقعدها في الأمم المتحدة، لكن في واقع الحال حسب رأي أحد كتاب صحيفة «اللوموند» الفرنسية ترى الصين أن على دول أفريقيا مقابل مساعداتها الاقتصادية والمالية أن تدعم مواقفها ومؤازرتها سياسياً ودبلوماسياً في نيويورك، أي في مقر الأمم المتحدة، خاصة في الدورات السنوية التي تعقدها الجمعية العامة للمنظمة حين تثير الدول الغربية ضدها موضوع حقوق الإنسان.
وذكر كاتب مقال الصحيفة الفرنسية الموقف الصارم للصين إزاء تبني بعض الدول الأفريقية مشروع توسيع نطاق عدد الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وموضوع حق النقض (الفيتو) الذي تخشي الصين بسببه أن يتم قبول دول منافسة لها مثل الهند واليابان ضمن الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ولذلك مارست ضغوطاً قوية لدعم موقفها من الدول الأفريقية ضد تبني مشروع تغيير تركيبة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
كما تسعى بريطانيا أيضاً من جانبها، عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست) إلى تعظيم نفوذها في القرن الأفريقي والانفتاح على مناطق جديدة، ولا سيما أفريقيا، وتسعى إلى ضمان كتلة تصويتية للدفاع عن قضاياها في المحافل الدولية لتعويض كتلة الاتحاد الأوروبي.
وكما هو واضح، فالجميع من الصين والولايات المتحدة واليابان والهند وإسرائيل جميعهم يسعون إلى تطوير علاقاتهم بالقارة السمراء، ليس فقط لأسباب اقتصادية واستثمارية واستراتيجية، إنما أيضاً بغرض الحصول بالمقابل على مؤازرة ودعم الكتلة التصويتية التي تحظى بها أفريقيا في المنظمات الدولية، وخاصة على مستوى الأمم المتحدة، فهل تلتقط الدول العربية وجامعة الدول العربية أزمة سد النهضة لفتح صفحة جديدة في علاقتها بالقارة السمراء، وبذلك تعزز الدول مواقفها على مستوى مصالحها الوطنية، وعلى مستوى المصالح القومية للدول العربية جمعاء؟!