عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ما وراء الرواية الرسمية

صحافيون كونوا «هولدينغ - ذي - لاين» في بريطانيا لمقاومة الرقابة على النشر التي تمارسها مؤسسات الصحافة وشبكات التلفزيون العملاقة والمتحكمون في وسائل التواصل الاجتماعي، لحجب نشر ما يناقض الرواية الرسمية في أمور خطيرة كمكافحة وباء «كوفيد - 19»، الرواية التي تلجأ «لتخويف» الناس من عواقب مخالفة تعليمات الجهات الرسمية.
التعبير Holding the Line ترجمته المفهومية، لا الحرفية، تعني التمسك أو الالتزام بالموقف أمام الضغوط، ولنسمِها «الصمود».
غالبية صحافيي المجموعة (التطوعية العضوية) يبقون أسماءهم سراً، ويكتبون بأسماء مستعارة في «بلوغات» ومواقع مستقلة، لأن لوغاريتمات التواصل الاجتماعي تمنع معظم «البوستات»، وإن كان الصحافيون يحاولون الالتفاف حول رقابة أباطرة وادي السيليكون بعدة حيل وابتكارات لغوية، أرجو أن يسامحنا القارئ في عدم الإفصاح عن تفاصيلها.
والسبب أن بين المجموعة عدداً من الأسماء الكبيرة في الصحافة البريطانية، أو مستقلين (freelance)، ويخشون انتقام مؤسسات ذات جبروت، كـ«بي بي سي» وشبكات التلفزيون، ما يضرهم مادياً.
الاستثناء ثلاثة أفصحوا عن هويتهم، مثل أنتوني غوسلينغ الذي ترك «بي بي سي» ويذيع على «يوتيوب» في قناة بالاسم نفسه «هولدينغ - ذي - لاين» مع زميلته سونيا ايليياه، المتخصصة في الاستقصاء، وتكتب لموقع «النساء المحافظات» (أفكار المحافظين وليس بمعنى المحافظة على التقاليد)، ولورا بيريل، التي أسست وكالة علاقات عامة خاصة، وهي صاحبة تسمية «هولدينغ - ذي - لاين» كبديل للاسم الأصلي الأقل جاذبية «صحافيون ضد الرقابة على نشر أخبار كوفيد»، الذي بدأت به المجموعة.
المجموعة قلقة من قصر الأخبار على المصدر الرسمي، والانتقائية من المصادر العلمية والطبية لاعتمادها (كالحقيقة العلمية)، رغم أن طبيعة العلم والعلوم هي التعددية، حيث لا يتفق العلماء إلا على القوانين الثابتة كالجاذبية أو الطفو مثلاً، أما النظريات فقابلة للتعديل.
ولاحظت هذه المجموعة أن كثيراً من المقابلات البديلة التي يجريها صحافيون شباب مع أطباء أو علماء يناقضون الرواية الرسمية، يزيلها «يوتيوب»، و«غوغل»، ومعظم وسائل التواصل الاجتماعي.
أول رد فعل كان من فيونا فوكس، مديرة مركز تزويد الصحافة بالمعلومات العلمية، وهو مركز في لندن يعتمد على التبرعات، وحسب موقعه، فمصدر ميزانيته من المعاهد والأكاديميات ومؤسسات البحث وشركات أدوية يتفق معظمها على الرواية الرسمية. المدام فوكس أثنت على المؤسسات الصحافية الكبرى كـ«بي بي سي» و«سكاي» مثلاً، قائلة إنهم ارتفعوا إلى مستوى المسؤولية.
أما مجموعة «الصمود» فيتهمون الصحافة البريطانية في مجملها، خصوصاً المؤسسات الكبرى، باتباع الرواية الرسمية بشكل يصعب معه على الأفراد اتخاذ القرارات الصحيحة في كيفية وقاية أنفسهم من العدوى، خصوصاً أن إرشادات الحكومة تتغير بشكل لا يمكن معه أن تكون السياسة مبنية على أسس علمية، وإنما تلعب الضرورة المالية والإمكانات فيها دوراً أكبر. مثلاً في بداية الوباء مطلع العام الماضي، كان النقص المادي في وسائل الحماية الشخصية والأقنعة الواقية وقلة الإمكانات في معامل التحليل للتعرف على الوباء وانتشار العدوى حقيقة موجودة لمن يبحث عنها؛ لكن الرواية الرسمية أخفتها وراء مقولة «إن المعلومات المتاحة من البحث الإحصائي لا تجد ما يثبت أن هذه الأساليب تمنع انتشار العدوى بفيروس كورونا». المقولة صحيحة لغوياً فقط، لأن الفيروس كان جديداً ولا تتوفر عنه إحصائيات. وتم توظيف غياب الإحصائيات لإخفاء السبب وهو نقص الإمكانات.
المدام فوكس اتهمت «صمود» بالمبالغة، نافية وجود محاولات لطمس الحقائق ومنعها من النشر. أما مدام ايليياه فقد دافعت عن «صمود» بأمثلة باضطرار «بي بي سي» إلى سحب عدة فقرات من موقعها بعد أن بثت مجموعة «صمود» مقابلات مع أطباء وعلماء تعمدت «بي بي سي» تجاهلهم مفضلة نشر المعلومات عن وباء (كوفيد) من مصدر واحد فقط. كما أشارت إلى أن «بي بي سي» والمؤسسات الكبرى كونت ما عرف «بمبادرة (بي بي سي) للأخبار الموثوق بها: كيف يحارب الناشرون المعلومات المضللة». وبصرف النظر عن المفارقة الساخرة الباكية، في أن أشهر مؤسسة صحافة وإذاعة في العالم تطالب دور النشر بالرقابة (بدلاً من تعددية المصادر وترك الحرية للمستمع أو القارئ)، فإن المساهمين في هذه المبادرة كانوا دور النشر الكبرى والمؤسسات العملاقة وتباركهم إمبراطورية وادي السيليكون التي أخرست رئيس أكبر وأغنى دولة في العالم ومنعته من التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي. والأخيرة تهتم اليوم بمبادرة «بي بي سي»، وأعادت برمجة اللوغاريتمات على إزالة أي فيديو أو بوست يخالف لوائح المبادرة.
في بريطانيا اليوم 600 ألف صحافي وعامل في المهنة (أرقام NUJ الاتحاد القومي للصحافيين) وأقل من 40 صحافياً وصحافية كونوا «صمود» وثلاثة فقط لديهم الجرأة على البوح بأسمائهم علناً، فلماذا تبتلع الغالبية الساحقة من العاملين في «مهنة المتاعب» (لتعرض الصحافيين تاريخياً للمتاعب بحثاً عن الحقيقة) الرواية الرسمية؟
الأمر يتجاوز الخوف، على الرزق، وأيضاً الكسل (سمة الجيل الجديد من الصحافيين)، ويتجاوز الرقابة، خصوصاً أسوأ أنواعها؛ الرقابة الذاتية، إلى ما هو أسوأ منها. وهو غسل الصحافي مخه بنفسه ليؤمن بعقيدة جديدة تسود المجتمع فيمنعه عقله الباطن من طرح أسئلة تكفر بالعقيدة.
مثلاً طوال شهر تتسابق كل الشبكات والصحف في «تأكيد» أن موجة الجو الحار في كندا والأمطار الغزيرة في أوروبا هي أدلة قاطعة بأن التغيير المناخي من صنع الإنسان، رغم أن بداية صيف 1963 كانت أسوأ عندما صاحبت الأمطار ثلوج، وموجة الحر والجفاف في 1976 حولت حدائق لندن إلى صحراء؛ وكان الضباب أغلق مرور العاصمة في منتصف الخمسينات، ولم يذكر في أي منها التسخين الحراري، ربما لغياب شبكة المنتفعين مادياً آنذاك.
يوم الخميس استضاف أهم برنامج إخباري بروفسور علم مستحدث اسمه «التغيير المناخي» نشر تقريراً عن سوء الأحوال الجوية، يحسده عليه نوسترداموس، وكاسندرا (صاحبة نبوءة تدمير طروادة)، وزرقاء اليمامة مجتمعين، ينذر فيها بعظائم الأمور (إذا لم نطبق توصياته) وتصبح إنجلترا كغابات الأمازون، «فدرجة الحرارة اليوم هي الأعلى في أكثر من أربعة قرون». ولم يخطر ببال المذيعة (خريجة كمبريدج) أن تسأل: «أربعة قرون؟ متى بدأ استخدام الترمومتر في قياس درجة حرارة الأجواء العليا بدقة يا بروفسور؟».