عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«أوردر... أوردر» في وستمنستر

«أوردر... أوردر»، (نظام... نظام) الصيحة الأشهر التي تتبادر إلى أذهان متابع جلسات أم البرلمانات، وستمنستر، عبر الأثير.
ذروة اللقاءات، في قاعة مجلس العموم ظهر كل أربعاء هي الأكثر مشاهدة حول العالم، خاصة بين الأنغلوفيلين، بسبب الإنترنت.
صيحة «أوردر» يطلقها من يعرفه العرب بـ«رئيس البرلمان» فلا مقابل بالعربية لـspeaker «المتحدث»، فهو يملك وحده منح الكلمة، أو طرد نائب من الجلسة إذا خالف التقاليد، غير المدونة، لكن لها قدسية الطقوس.
«أوردر... أوردر» تسمعها من السياح من مختلف أنحاء العالم وهم يلتقطون لبعضهم «كليب سيلفي» على التليفون الذكي يقفون عند مدخل قصر وستمنستر، دار مجلسي العموم واللوردات، تحت برج أشهر ساعة في العالم «بيغ بن»، حريصين على وضوح الصيحة في الكليب الذي يرسلونه إلى الأهل ويشاركونه على وسائل التواصل الاجتماعي، مقلدين «مستر سبيكر» رئيس الجلسة صائحاً، كناظر مدرسة يؤنب التلاميذ غير المنضبطين في الفناء أو في طابور الصباح، «نظام... نظام... أوردر... أوردر».
الزوار يقلدون عبارة «مستر سبيكر... سيدي الرئيس»، التي يبدأ بها صاحب السؤال، مداخلته، أو حتى الوزير أو رئيس الوزراء إجابته، رغم أن الكلمة ليست موجهة إلى الرئيس، وإنما إلى وزير أو نائب آخر، لكنها من غرائب تقاليد وستمنستر. التقاليد البرلمانية لا تسمح بمخاطبة نائب لعضو آخر مباشرة، وإنما عبر «مستر سبيكر» رئيس الجلسة، ويذكر الشخص المستهدف بالسؤال، أو الموجه إليه الإجابة، بضمير الثالث، أو بدائرته مثل «يا سيدي الرئيس، فلنُذكر الليدي صاحبة الشرف بالقانون رقم كذا وكذا»، ولا يسمح بذكر الأسماء؛ «المستر سبيكر» وحده ينادي بالأسماء، أما أي نائب فيخاطب الآخرين عبر «سيدي الرئيس»، بأسماء دوائرهم. وإذا أشار نائب مثلاً إلى تريزا ماي، فلا يقول اسمها، أو رئيسة الوزراء السابقة، بل «نائبة دائرة ميدينهيد». وإذا لم تسعف الذاكرة النائب المتحدث باسم الدائرة فيقول «صديقي صاحب الشرف»، إذا كان من الحزب الذي ينتمي إليه النائب، أو فقط «الجنتلمان صاحب الشرف» إذا كان من حزب آخر. وهناك فارق بين «صاحب الشرف» وبين «الذي نال حق الشرف the right honourable»، فالأول أي نائب، والأخير يكون عضواً في المجلس الاستشاري للملكة المكون من الوزراء وزعماء الأحزاب المنتخبة وكبار اللوردات.
اخترنا مناسبة «أورد أوردر... يا سيدي الرئيس»، لأن الأربعاء الماضي كان آخر جلسة مساءلة لرئيس الوزراء، ذروة المنازلات البلاغية، لهذه الدورة البرلمانية، إذ رفع المجلس الخميس لإجازة الصيف التقليدية. كما أنها أيضاً الذكرى الستون لهذا التقليد، والذي يعتبر، على شهرته، بدعة طارئة على أجيال وقرون مرت على أحجار أرضية قصر وستمنستر التي شهدت صراعات، ودماء، ومحاكمات وإعدامات، وميلاد قوانين.
في 18 يوليو (تموز) 1961 بدأت الحكاية بإجابة رئيس الوزراء وقتها السير هارولد ماكميلان (1894 - 1986) عن أسئلة النواب مباشرة، لمدة 15 دقيقة، كتجربة في ديمقراطية مستمرة التطور منذ القرن الثامن. التجربة نجحت ولقيت قبولاً كبيراً واستحساناً في الصحافة المكتوبة التي احتكرت تفسير أحداث البرلمان وشرح الجلسات للقراء قبل السماح بنقلها في الإذاعة والتلفزيون. وبعد عودة النواب من العطلة الصيفية في خريف العام نفسه، أصبحت المساءلة الأسبوعية لرئيس الوزراء، تقليداً برلمانياً في «جدول الأعمال» ابتداءً من 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1961. وكانت مرتين أسبوعياً، الثلاثاء والخميس، كل منهما 15 دقيقة ما بين الثالثة والربع والثالثة والنصف بعد الظهر.
أول تطوير «مودرن» كان في 1978 ببدء بث جلسات مساءلة رئيس الوزراء، وقتها السير جيمس كالاهان (1912 - 2005) مباشرة في الإذاعة.
أما التطوير الثوري فكان في 1989 بنقل جلسات المساءلة على الهواء مباشرة لتكتسب الشهرة العالمية ويعرفها الناس حول العالم، على اختلاف ألسنتهم «أوردر... أوردر، مستر سبيكر، سير». وكانت الـ«بي بي سي»، باعتبارها الإذاعة القومية، جاهدت لعقد كامل لإقناع «مستر سبيكر»، السير برنارد ويذريل (1920 - 2007) بالموافقة، وفي النهاية قبل الأمر بشروط تثبيت الكاميرات في القاعة بلا تحرك. وتضبط أوتوماتيكياً، والإخراج والمونتاج من غرفة مفصولة عن القاعة بزجاج، ولا مجال لحركات درامية.
أما الانقلاب الدستوري في 1997 فبدأه توني بلير في وزارته الأولى (1997 - 2001) عندما استغل أغلبيته البرلمانية (179 مقعداً) للتصويت لتعديل المساءلة إلى مرة واحدة في الأسبوع لتصبح الأربعاء ما بين الثالثة والثالثة والنصف.
أما النقلة التكنولوجية الحديثة الأخرى في تاريخ مساءلة رئيس الحكومة فحدثت في 2002 أثناء وزارة بلير الثانية (2001 - 2005) عندما سمح «مستر سبيكر»، مايكل مارتن (1946 - 2018)، ببث تلفزيون موقع البرلمان حياً على الإنترنت ليشاهدها أي شخص في أي مكان على الأجهزة الثابتة والمحمولة وتنتشر صيحة «أوردر... أوردر» حول العالم.
وفي عام 2003 تغيرت ساعات جدول الأعمال البرلمانية نزولاً عند رغبة السيدات الأعضاء بعد أن بلغ عددهن 117 (نحو الخمس) واعترضن على استمرار الجلسات طوال الليل، وأصبحت معظم الأيام (باستثناء الاثنين) تبدأ في الصباح الباكر، ويرفع البرلمان مبكراً الجمعة، فنقلت مساءلة رئيس الحكومة إلى الثانية عشرة ظهر الأربعاء.
المناسبة كاستعراض مسرحي، يتطلع إليه الصحافيون والمراقبون يتابعون انتقاء رئيس الجلسة للنواب، بجانب 15 فازوا بالقرعة لتوجيه الأسئلة، لأنه يحاول الموازنة عندما تظلم القرعة أحد الأحزاب أو تياراً سياسياً، فيعطي لهم الإذن بالحديث. وزعيم المعارضة مخصص له ست مداخلات، وهي أهم دقائق المبارزة الكلامية التي يتطلع إليها الجميع. ونجلس نحن الصحافيين في منصتنا الخاصة نراقب لغة الأجسام، وقدرة الخصمين على مهارة انتقاء الكلمات لتحويل المداخلة إلى نكتة على حساب الطرف الآخر، والأهم ردود الفعل من النواب، الذين يفترض أن ينصتوا حتى يأذن لهم الرئيس بالكلام. لكن نواب الحكومة والمعارضة كل يدعم زعيمه وكأنهم في حلبة مصارعة. تقاليد الصياح الساخر بدأت مع أول مناسبة قبل 60 عاماً عندما نهض رئيس الحكومة ماكميلان لتلقي أول سؤال، فصاح أحد نواب المعارضة «متى ستستقيل؟» فتدخل رئيس الجلسة، السير هاري هيلتون - فوستر (1905 - 1865) صائحاً «أوردر أوردر».