TT

إنها أيام الحرية! كيف سيتصرف بوريس؟

لا يبدأ «يوم الحرية» في إنجلترا بالاحتفالات التي وعد بها رئيس الوزراء بوريس جونسون، وإنما برنة تنبيه من تطبيق خدمة الصحة الوطنية، ينبهنا إلى ضرورة أن نعزل أنفسنا، لأننا اختلطنا بشخص مصاب بفيروس «كوفيد - 19».
وتشكو الأعمال التجارية والشركات من أنها تفقد موظفين حيويين بسبب تنبيهات ضرورة العزل الذاتي، الأمر الذي يترك تداعيات كبيرة على أرض الواقع. يذكر أن مئات العمال في مصنع لإنتاج السيارات يتبع شركة «نيسان» في سندرلاند أجبروا على عزل أنفسهم، الأمر الذي أحدث اضطراباً بصناعة السيارات الكهربائية.
من جانبه، تدخل توني بلير، رئيس الوزراء الأسبق عن حزب العمال، خلال عطلة الأسبوع ودعا إلى إقرار توجه أكثر دقة لاختبار واقتفاء أثر المصابين من أجل السماح للشركات بالاستمرار في العمل في ذات الوقت الذي تتخذ إجراءات احترازية منطقية.
ومن جديد، يسيطر على الحكومة شعور بالفوضى غير المكتملة في أعقاب التنفيذ السريع لبرنامج توزيع اللقاحات. ويحمل المتحور «دلتا» من فيروس «كوفيد - 19» تحديات جديدة وخطر احتجاز مزيد من الأفراد في المستشفيات. إلا أنه يمثل كذلك اختباراً للمقايضات التي يتعين على جونسون مواجهتها كي يتمكن من إدارة أزمة الجائحة على نحو أفضل.
وشهدت عطلة نهاية الأسبوع الراهنة واحدة من أسرع التقلبات على نحو قياسي في تاريخ الحكومة، وذلك لدى إعلان إصابة وزير الصحة الجديد ساجد جاويد بفيروس «كوفيد - 19». في بادئ الأمر، أعلن «داوننغ ستريت» أن زميليه (جونسون ووزير الخزانة ريشي سوناك) سيستمران في عملهما كالمعتاد، بمعاونة برنامج رائد يسمح بإجراء اختبارات يومية للعاملين الأساسيين. إلا أن الأمر لم يتطلب وقتاً طويلاً من رئاسة الوزراء لإدراك أن هذا القرار يعزز الانتقاد المفضل من جانب حزب العمال، الذي يتهم الحكومة بتطبيق قواعد على نفسها مختلفة عما تطبقه على من سواها. والآن، يعزل جونسون وسوناك نفسيهما، ما يعد بداية غير مبشرة للأسبوع الذي يشهد الاحتفال بـ«يوم الحرية».
المعروف بوجه عام أن الناخبين يميلون نحو الحذر، لكن تظل الحقيقة أن الرأي العام أشد تعقيداً عما توحي به الأرقام الجامدة. على سبيل المثال، نجد أن ملايين من الأولياء الأمور الملتزمين بالقانون يشعرون بغضب عارم إزاء إعادة أولادهم من المدارس كي يعزلوا أنفسهم من جديد قبل نهاية الفصل الدراسي، الأمر الذي يحرمهم من التعليم لشهور ويزيد أعباء رعاية الطفل. كما يشعر طلاب الجامعات بالسخط كذلك بسبب تدني معايير الخدمة التعليمية التي يحصلون عليها خلال فترة الإغلاق، بينما ظلت المصروفات الدراسية كما هي دونما تغيير. ولا يمكن للنشاطات والشركات التجارية أن تعيش في حالة من التيه إلى الأبد، ويمكن لرحلة لمسافة 50 ميلاً من لندن أن تكشف كيف أن المدن الصغيرة تغلق مزيداً من المتاجر، في الوقت الذي يجري فيه إرجاء أو إلغاء إعادة فتح المطاعم.
كما تمر الصناعات الخدمية بحالة فوضى، مع إغلاق المتاجر الكبرى أبوابها وتنامي الوظائف الشاغرة التي لم يشغلها بعد الموظفون الحاصلون على إجازات مدفوعة الأجر، وهي وظائف ربما لا يبقى لكثير منها أثر في الوجود بعد انتهاء هذه الأزمة.
وما يزيد الطين بلة أن الوعود بالسماح بالعودة لقضاء إجازات خارج البلاد تبدو مقلقة. على سبيل المثال، جرى خلال عطلة نهاية الأسبوع تطبيق إجراءات حجر صحي أكثر صرامة على العائدين من فرنسا التي تشكل إحدى الوجهات المفضلة لقضاء العطلات لدى البريطانيين من أبناء الطبقة الوسطى.
ومن المؤكد أن ثمة جانباً سياسياً خفياً وراء هذه الفوضى التي تغذي مشاعر السخط تجاه منظومة الاختبار وتتبع الأثر، وتؤجج الانطباع بوجود حكومة تدخلية ومتناقضة. وبينما بدا جونسون في وقت سابق مصمماً على إعادة فتح البلاد وإنهاء جميع القيود المرتبطة بالتباعد الاجتماعي وأطلق عبارته الشهيرة حول أنه يجب على البريطانيين أن «يتعلموا كيفية التعايش مع (كوفيد)»، عاود رئيس الوزراء التفكير في الأمر وبدّل رأيه. واليوم، يبدو جونسون متوتراً ومحصوراً ما بين الفريق المؤيد لرفع جميع القيود والفريق الآخر الداعم لفرض إجراءات إغلاق.
في الوقت الحاضر، أصبح لزاماً على جونسون رسم ملامح مسار وسط واضح وإقرار سياسة أكثر تناغماً ووضوحاً في التعامل مع الجائحة. كما يحتاج إلى المرونة، بمعنى أنه حال تبدل الحقائق أو البيانات، يكون باستطاعته التغير معها. وقد أبدت البلاد حتى اليوم بالفعل قدراً كبيراً من التسامح إزاء أخطاء جونسون وعثراته. واللافت أنه في ظل قيادته، يبقى حزب المحافظين متقدماً في استطلاعات الرأي باستمرار.
واليوم، تلقّى ما يزيد على نصف السكان البالغين جرعتي اللقاح. ومع هذا، يبقى من غير الواضح ما إذا كان ينبغي للبلاد إعادة فتح مجالها العام بالكامل، خاصة في وقت تتفاقم فيه التكاليف البشرية والاقتصادية لإجراءات الإغلاق التي تبدو دونما نهاية.
وقد يتردى هذا الوضع بسرعة أمام جونسون، ذلك أنه ربما يضطر إلى إصدار أوامره بفرض قيود إغلاق جديدة في غضون 5 أسابيع من الآن، حسبما حذر المسؤول الطبي الأول المعاون له، كريس ويتي. وأضاف ويتي أن التزايد «المخيف» في أعداد الأشخاص الذين يجري احتجازهم في المستشفيات يمكن أن يترك خدمة الصحة الوطنية «في مواجهة مشكلات من جديد وبسرعة مثيرة للدهشة» بمجرد رفع القيود. أما كير ستارمر، زعيم حزب العمال، فقد وصف قرار رفع القيود بـ«الطائش».
واللافت كذلك أن الرسائل المتعلقة بعودة الموظفين لأعمالهم تبدو فوضوية هي الأخرى. على سبيل المثال، أعلن جونسون الأسبوع الماضي: «نلغي التعليمات الخاصة بضرورة العمل من المنزل إذا كان ذلك في الإمكان، لكننا لا نتوقع أن تستأنف البلاد بأكملها العمل من المكاتب بحلول الاثنين». وعلى هذا الأساس، فإن كاتب هذا المقال لا يدري من أين سيكتب مقاله التالي.
الحقيقة أن كثيرين بدأوا في إغلاق تطبيقات التنبيهات ولم يعودوا ينصتون للنصائح القادمة لهم من أعلى. كما أن ثلثي البريطانيين قالوا إنهم سيستمرون في ارتداء أقنعة حماية الوجه حتى بعد رفع القيود، ما يعني أنه لن يكون هناك تغيير.
الواضح أن ثمة دوافع خفية وراء الدفع نحو رفع القيود في الوقت الراهن، والمؤكد أن هذا التحرك لا يخلو من مخاطر، لكن سيكون من غير الواقعي عدم الإقرار بالأسباب التي دفعت جونسون لاتخاذ هذه الخطوة، خاصة أن تداعيات إجراءات الإغلاق واضحة للعيان.
من الناحية السياسية، ما يزال جونسون في مقعد القيادة مع اقتراب البرلمان من عطلته. وطالما أنه ليست هناك أدلة واضحة على أن الفيروس يفرض أعباءً هائلة على خدمة الصحة الوطنية والمستشفيات، سيتجنب جونسون الاعتماد على أصوات أعضاء حزب العمال في دفع التشريعات قدماً.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»