مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

الكاظمي والمعادلة الصعبة

هي ليست فزعة دفاعاً عن موقف الرجل كما اتهمني بعض الأصدقاء بعد فاجعة مستشفى الناصرية، وهي ليست محاولة لتبرير أخطائه وأخطاء فريقه وأخطاء حكومته، فجميعهم يتحملون نسبة معينة من المسؤولية، لكن الطبقة السياسية (أي نظام ما بعد 2003) تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عن كل ما يجري وسيجري في العراق على المستوى السياسي، والاقتصادي، والأمني، والخدماتي.
لا توجد في العراق سلطة أو نظام لكي يحاسب الكاظمي وحكومته على سوء إدارة الدولة والثروة، مع العلم بأنه يحق للجميع محاسبتهم على أدائهم، لكن يبدو أن في العراق منظومة فوق المحاسبة لأسباب عقائدية وعرقية وعائلية، عندما وصلت إلى الحائط المسدود ولم يعد بإمكانها الاستمرار وباتت خياراتها ضيقة ومحاصرة بـ«التشرينيين» من خلفها وبالحرب الأهلية من أمامها، استنجدت بحَكَم من خارجها يحكم بينها شرط ألا يحكمها. وفي اللحظة التي حاول فيها الحكم أن يحكم تخلوا عنه جميعاً وتركوه وحيداً بداية من حادثة البوعيثة وما تلاها.
قبل 9 أبريل (نيسان) 2019، كان العراق على «مسافة صفر» من حرب أهلية، وما يحدث منذ ذلك التاريخ وإلى هذه اللحظة عملية تأجيل لعنف مسلح سيكون مقدمة لحرب أهلية تتمظهر يوماً تلو آخر، وبسرعة لافتة، من خلال ممارسات سياسية وميليشياوية وضغوط خارجية تؤثر على استقرار الداخل، بدأت من الأعمال المدبرة ضد أبراج الكهرباء وانقطاع الغاز من المصدر المزود، إلى شح المياه بعد تغيير جيران العراق مجاري الأنهر، أو بناء سدود، وما بينهما تحويل سماء العراق إلى ساحة مفتوحة للمسيّرات تضرب البعثات الدبلوماسية والعسكرية ضمن أجندة خارجية تتصل بمفاوضات متعثرة وليس بما يتذرع به البعض من سيادة العراق.
عندما قبل مصطفى الكاظمي التكليف لم يكن يملك عصاً سحرية تساعده على حل ما يمكن حله من أزمات مستعصية أو مزمنة، ولم يملك فريقه خشبة يابسة يتكئ عليها بين الحين والآخر، فالواقع المزري للدولة ومؤسساتها جعل الكاظمي أسير معادلة صعبة؛ فهو من جهة لا يمكنه التراجع تجنباً لهزيمة شخصية ومعنوية ستنهي حياته السياسية مبكراً، ومن جهة أخرى جوبهت محاولاته لتغيير الواقع ببطاقات حمراء رفعتها في وجهه قوى لن تسمح له أو لغيره بالمس بمصالحها ونفوذها وثرواتها وارتباطاتها، فمنذ جلسة منح الثقة لحكومته؛ التي كانت مؤشراً على طبيعة العلاقة بينه وبين هذه القوى، وإلى الآن ينزلق العراق بسرعة نحو الهاوية.
يسجل للكاظمي أنه جال على العواصم الإقليمية والدولية، وسعى لكي يتفاهم الجميع من أجل العراق وليس أن يبقى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية، والاستفادة من مرحلة استقرار سياسي قد تجلب الاستثمارات، لكن الواقع كان صادماً، ففي عراق الإقطاعيات السياسية المسلحة ومكاتبها الاقتصادية، لا يمكن أن تعطي ضمانات لمستثمرين، وبات من المستحيل إقناع القطاع الخاص أو السيادي بدخول السوق العراقية، فالجميع يعلم أن سلطة الأحزاب وشروطها فوق سلطة الدولة.
إذن؛ قبل المطالبة بمساءلة الكاظمي ومحاسبته على إخفاقه في تنفيذ وعوده وتسوياته، هناك ضرورة للمحاسبة على 18 سنة من الإخفاقات. والسؤال الطبيعي: هل كان عليه مصارحة العراقيين أو الانسحاب؟ في الشق الأول يعود الجواب إليه. أما في الثاني؛ فإن انسحابه أو اعتذاره وحتى عند انتهاء ولايته وصعوبات الاتفاق على بديل ونتائج الانتخابات التي قد تؤجل، سيفتح الأبواب لعودة العنف الدموي إلى ساحات العراق وشوارعه، فالواضح أن من بعده فوضى ستأخذ ضحايا جدداً، وحرباً أهلية داخل مكون لم يرقَ قادته إلى مستوى المسؤولية.
عود على بدء؛ إلى مصطفى الكاظمي الذي أربك عدداً من أصدقائه عند قبوله التكليف، وتساؤلهم هل كان قراره متعجلاً، وهل كان ارتباكهم منطقياً، خصوصاً أن خصومه الذين استعجلوه لقبول المهمة، هم الآن في عجلة غريبة لسحبها حتى لو أدى ذلك إلى خراب ما تبقى من البصرة.