الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

«الفراغ» الذي تملأه «طالبان»

يتقدم الانسحاب الأميركي من أفغانستان بموازاة تقدم حركة «طالبان» وعودة مقاتليها للسيطرة على أكثر من ثلاثة أرباع البلاد، ومعظم المنافذ الحدودية الرئيسية، وآخرها الممر الحيوي إلى باكستان، في مقاطعة «سبين بولداك»، الذي قال أحد مقاتلي الحركة إن السيطرة عليه تشبه دخول العاصمة كابل. ومع هذا التقدم ترتفع أصوات في أفغانستان وفي الدول المعنية بمصير هذا البلد، وفي المنظمات الدولية الإنسانية التي تعرف ما تعنيه عودة «طالبان» للتحكم في حياة الشعب الأفغاني، وفي وضع النساء والفتيات فيه بشكل خاص. ويسأل هؤلاء: بأي منطق يقبل الرئيس جو بايدن أن يسحب قواته من أفغانستان، فيما كل التحذيرات تنبه من مخاطر هذا الانسحاب، وعجز حكومة الرئيس أشرف غني عن الصمود في وجه مقاتلي «طالبان»، وجاءت تطورات الأسبوعين الأخيرين لتؤكد صحة هذه التحذيرات؟
الرد على هذه التحذيرات جاء بوضوح على لسان الرئيس الأميركي. دافع بايدن عن قرار الانسحاب، معتبراً أن مهمة القوات الأميركية انتهت بهزيمة حركة «طالبان» وبمقتل أسامة بن لادن وبضمان عدم قدرة أي تنظيم على استخدام أفغانستان كموقع لشن هجوم على المصالح الأميركية، يشبه ما حصل قبل عشرين سنة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
«أريد أن أتحدث عن أمور أكثر فرحاً»، كان جواب بايدن عندما سأله أحد الصحافيين عن تبريره لهذا الانسحاب، ثم أضاف تفسيراً أوسع لقراره خلال مؤتمر صحافي شرح فيه نظرته إلى تاريخ الصراع في أفغانستان وتوقعاته للمستقبل. وكان رأي بايدن واضحاً أن الحكومة المركزية في كابل لم تتمكن في أي مرحلة من مراحل التاريخ الأفغاني من السيطرة على كل أرجاء تلك البلاد، كما أن الولايات المتحدة فعلت ما يمكن أن تفعله في سبيل دعم الحكومة والجيش الأفغاني، وقضى أكثر من ألفين من جنودها في تلك الحرب وأنفقت تريليوني دولار، ولا يمكنها أن تبقى في أفغانستان إلى الأبد، لأن مهمة بناء أفغانستان يفترض أن تكون من مسؤولية الشعب الأفغاني.
ولهذه النظرة مؤيدون داخل الولايات المتحدة في الحزبين، يرون أن بلادهم لا تستطيع، كما أنه ليس مطلوباً منها أن تكون «شرطي العالم». وفي هذا يلتقي بايدن مع سلفه دونالد ترمب صاحب شعار «أميركا أولاً»، والذي كان قد شرع في بدء المفاوضات مع حركة «طالبان» تمهيداً للانسحاب الأميركي، كما أعلن عن سحب معظم القوات الأميركية من العراق وسوريا، رغم المخاطر التي تعبر عنها مراكز البحث الأميركية، من احتمال عودة تنظيم «داعش» إلى البادية السورية وإلى المنطقة الممتدة بين كركوك وسامراء في سلسلة جبال حمرين في العراق. بل إن هناك من يسأل: هل ذهب «داعش» من تلك المناطق كي نتحدث عن عودته؟
جاء الأميركيون إلى أفغانستان لإنقاذها من تنظيم «القاعدة». وجاءوا إلى العراق لإنقاذه من «داعش»، بعدما نجحوا في خلع نظام صدام حسين. وبالطبع كان تدخلهم في البلدين، كما في بلدان أخرى، لأن مصلحتهم تقتضي ذلك. لقد مثلت تجربة فيتنام بالنسبة للمشرع الأميركي في الكونغرس ولصاحب القرار في البيت الأبيض درساً بشأن الحدود التي يمكن أن تطمح إليها القوات الأميركية لفرض الأنظمة الموالية لها والمجيء بالحكام الحلفاء. ولولا هجمات 11 سبتمبر لما اتخذ الرئيس جورج بوش الابن قراره بإرسال قواته إلى أفغانستان لشن الحرب على الملا عمر وعلى أسامة بن لادن، مع أن بوش ينتقد اليوم قرار سحب القوات الأميركية من أفغانستان، خوفاً على ما ستتعرض له النساء في ذلك البلد على يد «طالبان»، كما يقول. ولولا التهديد والمخاطر التي يشكلها تنظيم «داعش» على أمن الولايات المتحدة وعلى مصالحها لما تدخلت في العراق وسوريا للقضاء على هذا التنظيم، مع أن كثيرين من المراقبين يرون أن هزيمة التنظيم ظرفية، قد تكون حرمته من مواقع وقواعد و«عواصم»، لكنها لم تلحق الأذى بآيديولوجيته التي لا تزال تجد مواقع في أذهان وأفكار عدد لا يستهان به من التابعين والمؤيدين.
يقود هذا إلى الحديث عن دور ومسؤولية الأنظمة والشعوب التي تشكو من «الغزو» الأميركي لبلدانها، ثم تشكو عندما يقرر «الغزاة» ترك هذه البلدان ليقوم المسؤولون فيها بتدبير شؤونهم بأنفسهم. فالفراغ الذي يوفره غياب الدولة وعجز المواطنين عن بناء أوطان تستحق هذا الاسم هو الذي يفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، الأميركية وسواها، وهي تدخلات تنتهي بتحقيق مصالح تلك الدول التي لا تشتغل كمنظمات خيرية.
وإذا كان لتجربة التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق، ما دام الحديث عن هذين البلدين، أن تفيد شيئاً فهو أن بديل هذا التدخل هو قدرة الدولة على فرض نفوذها والولاء الوطني الموحد خلف قرارها.
باستثناء ذلك، يكون البديل ما تشهده اليوم مناطق واسعة من أفغانستان من توسع «طالبان» على حساب الحكومة المركزية رغم ما أنفق عليها من أموال، وما يعانيه العراق من انهيار في الخدمات وتهديد أمني من الميليشيات، تجد الحكومة صعوبة في مواجهته.
وليس سراً أن الرئيس الأفغاني أشرف غني يشعر بخيبة أمل من التصرف الأميركي وهو يرى دفاعات قوات بلاده تنهار أمام تقدم خصومه من مقاتلي «طالبان». ويمكن أن يقال الأمر نفسه عن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي يتابع مفاوضات الغرف الخلفية بين واشنطن وطهران، فيما يتعرض لضغوط في بلاده من الأطراف الموالية لإيران للإسراع في طلب سحب ما تبقى من القوات الأميركية، وتواجه القوات العراقية صعوبات أمام تمدد «الحشد الشعبي» وهيمنته على المؤسسات الأمنية، وهجماته المتكررة على القواعد الأميركية. وإذا كان الوضع على هذه الحال رغم أن 2500 جندي أميركي ما زالوا في العراق، فكيف سيكون عندما تنسحب هذه القوات بنتيجة المفاوضات بين البلدين ويُترك الكاظمي لمصيره كما تُرك أشرف غني؟