فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

للعلاقة التاريخية حادبها... وراعيها

خففت مبادرة لا تخطر إلا في ضمير من هو حادب على لبنان الذي يزداد اكتواؤه تحت بصر وسمع من يُفترض أنهم حراس الوطن والمواطن وليسوا الذين عن واجبهم ساهون. وجاءت احتفالية البطريركية المارونية يوم الأربعاء 7 يوليو (تموز) 2021 ترسم ملامح هذه المبادرة وتضيء على ما كاد أثره يضيع وسط ضوضاء التلاعبات والتحزبات.
هنا الحادب طرفان: المملكة العربية السعودية بدءاً بالملك عبد العزيز - رحمة الله عليه -، الذي أسس وبنى وجمع الصف ووحَّد ووضع مبادئ نهج يسير في هديه الذين يواصلون من بعده ابناً بعد ابن وصولاً إلى أن يكمل الأحفاد المسيرة. والبطريرك بشارة الراعي بما يعني مقامه الروحي إلى جانب خطابه الوطني من أن المبدئية هي التي ما يتمنى اللبنانيون توافرها لدى أهل الحُكْم فلا يبقى هذا الإيذاء من جانبهم للبنان الوطن والمواطن.
على مدى سنوات الأزمة اللبنانية المتواصلة عناداً يستهدف التعقيد، كان الممسكون بمفاصل النظام إما لا يعالجون الأمور لضيق ذات الأفق أو لارتباط انتهوا أسرى في شباكه، أو لأنهم إلى الأمريْن معاً يوظفون الأزمة للصالح الخاص على ركام الصالح العام.
وعلى مدى هذه السنوات تلقت المملكة العربية السعودية الكثير من الإساءات، التي وتحت الأضواء الكاشفة وليس في الخفاء عن أُولي الاستئثار بالمفاصل تلك، تجاوزت الكلام المتجني إلى الفعل الجنائي تدريباً «مجاهدين» وتمويناً عسكرياً لهم وشحن مشاعرهم بأقسى مفردات التشفي بغرض إلحاق أشد الأذى بمواطنيها وأرضها وركاب بعض مطاراتها ومحطات تكرير نفطها ما طاب لهم الإيذاء.
في ظل هذه الأجواء التي تستهدف علاقة تجاوزت الطقوس الرسمية بين المملكة قيادة وشعباً ولبنان الوطن والشعب والرئاسات، وكانت علاقة خير على لبنان في سراء سنواته وضرَّائها، كانت الدبلوماسية السعودية في سعي دائم لإبقاء لبنان في منأى عن الزلزلة التي لا يتحملها، وكان ممثلو هذه الدبلوماسية في لبنان سفراء المملكة يضاعفون البذل ومن دون أن يسجل أي منهم عبارة تخدش الكبرياء أو تشعل ناراً أو حتى ترمي حطباً على النار. وبين ضائقة سياسية لبنانية وأُخرى كان السفير وليد بخاري، الذي شاءت أقداره أن يشغل المنصب في أكثر الأزمات السياسية صعوبة في لبنان يبتكر من المبادرات ما تتحول أحياناً إلى عنوان جلسات وندوات تنويرية في رحاب السفارة يهدف من عقدها الرد على الذين يسيئون، بالتذكير على صداقة وعلاقة شعبية وسياسية تعود إلى الزمن السعودي للتأسيس والذي تلاه الزمن اللبناني للتأسيس. ولم يكن إحياء مناسبة احتفالية اليوم الوطني السعودي قبل سنتيْن في رحاب المتحف اللبناني مسألة ضيق المكان في فندق، وإنما كان الاختيار رسالة بالغة المعنى والرقة من أن لبنان التراث والتاريخ والسيادة حاضر في البال السعودي كما حضور الحرص على بقاء ميثاق الطائف في منأى عن تلاعب الذين يفتعلون التعامل معه بالكثير من عدم المسؤولية الوطنية.
لكن تبقى المبادرة المتمثلة بأن يكون هنالك حيز للمملكة في إحياء مناسبة عزيزة على الشعبيْن السعودي واللبناني هي الأمر اللافت.
في طريقي يوم الخميس 8 يوليو 2021 للمشاركة ككاتب في اليوم التاريخي غير المسبوق يشهده الصرح البطريركي الرابض على أجمل قطعة أرض في الجبل الكسرواني، ويبدو كما لو أنه بحكم الامتداد البانورامي للبحر من بيروت التي فجّروا ميناءها وقتلوا وجرحوا ودمروا ومع ذلك يعطلون بعدم الموافقة على رفع الحصانة بطلب من المرجعية القضائية المنزهة عن الغرض، هو الآخر منارة كتلك التي تحدد الهدف للسفن التي تمخر عباب البحر... في طريقي إلى الصرح أزوره للمرة الثانية بعد الأُولى قبل نصف قرن، عادت بي الذاكرة إلى مناسبة خيِّرة في رحابه جمعتْنا ثلاث قامات شعرية عروبية الهوى الوطني (الأخطل الصغير وعمر أبو ريشة والشاعر القروي رشيد سليم الخوري) وصحافي (فؤاد مطر) يواصل الجهد الميداني في بعض أقطار الأمة لكي تحقق الصحيفة التي هو محرر الشؤون العربية فيها (النهار) تطلُّعها أن تصبح صحيفة يتساوى فيها الاهتمام بالشؤون العربية مع الاهتمام المحلي التقليدي. ولقد أكرم صاحب الصرح البطريرك المعوشي الزوار الأربعة وآخرين بإفاضة، خلال مأدبة غداء جمعتْنا به، الحديث عن لبنان العروبي والجوار العربي الصالح وعدم غضبه لأن «سلطان» ذلك الزمن نال منه غمزاً ولفظاً كما «سلطان» الزمن الراهن، حيث ترك المجال أمام تسميته «محمد المعوشي»؛ لأنه أحبط محاولة استهدفت ربط لبنان بما كان يجري طبْخه بريطانياً - أميركياً في أواخر الخمسينات، وهو إنشاء ما اصطُلح على تسميته حلف بغداد. وهذا تماماً فعله النظام الثوري الإيراني الذي منع لفظ اسم صدَّام حسين كاملاً، وإنما صدّام فقط لأن بقية الاسم يحرَّم على صدَّام حمْلها.
ما سمعناه من البطريرك الراعي في شأن الجوار العربي ومصلحة لبنان في علاقاته السوية مع الدول العربية، وبالذات مع السعودية التي تشكل ماضياً واستمراراً رافعة للبنان وللأشقاء العرب من وهداتهم، ذكَّرني بما دوّنته من رؤى قالها البطريرك المعوشي حول العرب والعروبة؛ مما يعني أن هذا الصرح مبني على أسس لخصها البطريرك الراعي في كلمته لمناسبة الاحتفالية بعمل تأليفي غير مسبوق هو «علاقة البطريركية المارونية بالمملكة العربية السعودية»، أعده الأباتي أنطوان ضو وتولى إصداره بالشكل اللائق طباعة إلى جانب التوثيق المرفق بالصور الإعلامي نوفل ضو والمناسبة هي «مئوية العلاقة بين البطريركية المارونية والمملكة العربية السعودية».
ما استوقفني كما الذين أصغوا بكثير من الانتباه إلى كلمة كل من البطريرك الراعي والسفير بخاري، أن الجامع المشترَك في الكلمتيْن كان «الحوار حلاً والسلام واقعاً والسيادة حقاً».
ليس من مبالغة القول أن احتفالية المئوية الأُولى لعلاقة الكنيسة المارونية بالسعودية كانت حدثاً مكتمل المعاني الطيبة. وهو في انعقاده وبالذات في الصرح البطريركي برسم الطيف المحتار في المارونية السياسية بأمل أن تؤكد ثوابت باتت خارج رؤيتها ولا تبالي في أنها تقفز في خطابها التعبوي وحراكها السياسي فوق هذه الرؤية. وهي إذا فعلت واستعادت النظرة الموضوعية لواقع حال الوطن، تكون احتفالية الصرح البطريركي بمئوية علاقة لبنان الابن الضال حالياً بالدولة العربية الحادبة من دون مطالب، مناسبة خيِّرة حدثت ومن شأنها إيقاظ من طالت غفوتهم.
في السياق نفسه، أستحضر قول أحد رموز العمل السياسي والدبلوماسي السفير السابق للمملكة لدى لبنان الدكتور عبد العزيز خوجة الذي جسّد بعدما شغل منصب السفير بضع سنوات، حال لبنان الفائض صراعات سياسية وخلافات عطلت مسيرته بأبيات من الشِعر أختار منها الآتي:
• لبنان في قلبنا نار تؤرقنا... خوفاً على بلد قد عزَّه الأزل
• كأن لبنان لا أرض ولا نسَب... وأهل لبنان من لبنان قد رحلوا
• جرح على الأمل المكسور ينحرني... لبنان عد أملاً فالجرح يندمل
• يا ساسة البلد المستنجِد اتحدوا... هذي بلادُكمُ والسهل والجبل
خلاصة القول، أنه لا بد لليل اللبناني القاتم السواد بفعل انتساب لبنان إلى زمن العتمة المزدوجة جنباً إلى جنب مع سوريا والعراق وإيران أن ينجلي. فالمملكة الحادبة على عهدها بأن لبنان على نحو ما قاله السفير بخاري في رحاب «دير المخلص» في «وجدانها وسيبقى»، وأما الاهتمام الذي اعتاد عليه لبنان في أزمات محنه وهي كثيرة، فإن استعادته في انتظار أن يهتدي معطلو مسيرته. والراعي من جانبه لن يهدأ له بال قبل أن تبرأ جراح الوطن ويأخذ مكانه بين الأوطان المستقرة. والله القادر والمعين.