فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

هل يمكن أن نفصل المبدع عن موقفه؟

هل نستطيع أن نفصل المبدع عن إبداعه؟ هل للعملية الإبداعية قوانينها الخاصة، التي ينفصل فيها المبدع عن ذاته كإنسان لتحل معها ذات أخرى على النقيض تماماً من الأولى، وبالتالي يمكن أن نرسم خطين متوازيين بين المبدع والإنسان، ونرتاح من عذاب السؤال عن سبب الازدواجية القاتلة بين الاثنين التي حيرت دارسي الأدب الإنساني، منذ فجر التاريخ؟
هل يمكن أن نمحو من أذهاننا ووجداننا صورة إنسان وحش، وفي الوقت نفسه شاعر، أو كاتب، أقرب إلى الملائكة؟ وهل نستطيع منع أنفسنا من طرح السؤال الممض، ولو في أعمق أعماقنا: أيهما يكذب، المبدع كإنسان أم المبدع كمبدع؟ وإذا كان أحدهما يكذب، فكيف بإمكاننا أن نميز ذلك؟ ومن نصدق؟ إننا لا نتحدث عن تصرفات أو مناكفات شخصية، بل عن مواقف كبرى تتعلق بالحرية، والحقوق المدنية، والتنوير والتقدم، التي يبشر بها كاتب فيما يكتب، لكنه ينقضها عملياً كل يوم.
هل إدانة عملية عدم الانسجام الصارخة هذه بين المبدع وإبداعه هي عملية تسييس، وأنه «نظرياً، لا بد من الفصل بين الاثنين»، كما كتب الزميل حازم صاغية في «الشرق الأوسط» بتاريخ 27/6، وذلك من أجل مصلحة الإبداع نفسه، وإلا عرضنا التاريخ الأدبي لمحرقة كبرى؟
إن ظاهرة اصطفاف المبدع كإنسان إلى جانب كل ما يتناقض مع القيم الإنسانية الكبرى لا يمكن أن نضعها تحت خانة السياسة، أو نصنفها يميناً ويساراً، أو ننسبها إلى أي إيديولوجية، إلا إذا كانت الفاشية والنازية والعنصرية والصدامية والقذافية والأسدية، وما يتراوح بينها، إيديولوجية، وهي ليست كذلك بأي حالة من الأحوال، بل انحرافات مَرَضية أفرزتها ظروف معينة في فترات تاريخية شاذة في عمر البشرية، وهي اغتصاب مريع للعناصر الأخلاقية والإنسانية، وانحراف طارئ، مهما طال، في تاريخ البشر الطبيعي. ومن هنا السقوط المريع لمثل هذه الظواهر، التي لم تستطع أن تتأصل داخل أي مجتمع، رغم الزمن الطويل والقمع الرهيب، والتضليل النظري والفكري، كما لم تستطع أن تخلق معادلها الجمالي والأدبي والفني، ما عدا استثناءات فردية، قليلة جداً.
إن تبشير المبدع كمبدع بالحرية والكرامة الإنسانية والحق الطبيعي بالحياة، وهي قيم كبرى تشكل جوهر الأدب الإنساني عموما، بينما نجده كإنسان يناقضها تماماً في ممارساته الواقعية، لهي ظاهرة تنتمي لعلمي النفس والاجتماع وخاصةً في بلداننا العربية، حيث ازدهرت الوصولية والانتهازية والازدواجية والنفاق بفعل الهزات والانقلابات السياسية والممارسات القمعية المتواصلة، التي أعاقت أي تطور طبيعي، كما هو حاصل في البلدان الغربية، حيث يكون الانتماء لهذا الفكر أو ذاك انتماء حراً في أغلب الحالات.
ويصح هنا وهناك، أن انحياز المبدع كإنسان إلى سلطة قمعية، هو سقطة إنسانية وأخلاقية، ليست لها علاقة بالخيار السياسي، ومن الصعب غفران ذلك، حتى لو كان، مثلاً، شاعرا من طراز إزرا باوند، عراب الشعر الحديث في القرن العشرين، الذي اتخذ كما هو معروف، مواقف مؤيدة للفاشية والنازية خلال الثلاثينات والأربعينات. فبعد أربعين سنة من رحيله، تمت الموافقة على رفع لوحة معدنية صغيرة على البيت اللندني الذي سكنه بين عامي 1905 و1914. وبالطبع، لم يمنعوا كتب باوند، ولم يرموها في البحر، أو يحرقوها، لكن هذا «التكريم» المتأخر يكشف أن الشعوب لا يمكن أن تغفر أو تنسى ببساطة خيانة المثقف. ولا تزال هناك غصة في النفوس من شهادة المخرج السينمائي إيليا كازان ضد زملائه أثناء فترة المكارثية، رغم مرور أكثر من سبعين سنة.
نعم، قد نستطيع أن نفصل المبدع كمبدع عن المبدع كإنسان كقراء في غرفنا الخاصة، ولكن خيانة القيم الإنسانية الكبرى من اختصاص التاريخ.