إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ميلا والإمام

ما قام به إمام مسجد باريس الكبير، شمس الدين حفيظ، نهار الخميس الماضي، يفوق التصور. لقد فتح الرجل أبواب مسجده لشابة فرنسية تدعى ميلا، وأهداها نسخة من المصحف مجلدة بغلاف وردي اللون. من هي ميلا التي لا يعرف أحد اسمها الكامل، ولماذا هذه الحفاوة والتكريم؟
أقل ما يمكن أن توصف به ميلا هو أنها مراهقة نزقة بذيئة اللسان. تعرضت للإهانة من شاب مسلم فنشرت تسجيلاً مسيئاً للإسلام. كان ذلك مطلع العام الماضي. وبين ليلة وضحاها صارت البنت البالغة من العمر 16 عاماً قضية رأي عام في فرنسا. قامت عليها القيامة وتلقت المئات من رسائل التقريع والشتيمة. وبلغ من شهرة القضية أن التسجيل شوهد 35 مليون مرة في أيام قلائل. ثم عادت البنت ونشرت تعليقاً بلغة سوقية أشد بذاءة، تتحدى فيه مهاجميها. والكل يعرف أنه لا ضريبة في فرنسا على الكلام المرسل وحرية التعبير، لكن القانون يعاقب على رسائل التهديد بالقتل. وقد تلقت ميلا مائة منها.
انقلبت حياتها وما عادت تأمن على نفسها. لم تفهم أنها لعبت بالنار. كانت المسبات تنهال عليها بمعدل ثلاثين رسالة في الدقيقة. واضطرت لتغيير مكان سكناها ومدرستها. ثم توقفت عن الذهاب إلى المدرسة لأن الإدارة عجزت عن حمايتها. استعانت بالسلطات. وخصصت لها وحدة مكافحة جرائم الكراهية الإلكترونية شرطة ترافقها ليل نهار. صارت شبيهة بسلمان رشدي بعد فتوى الخميني ضده، مع الفارق بين الشخصيتين ومستوى إدراك كل منهما. وكما يحدث في مثل هذه القضايا، تطوع محامون لتحريك دعاوى باسم ميلا للاقتصاص ممن هددوها بالقتل، حتى لو كان التهديد افتراضياً، عبر «النت».
انعقدت محكمة الجزاء الأربعاء الماضي وذهبت المشتكية إلى الجلسة بشعر مصبوغ باللون الأخضر. وكان هناك 13 شاباً في قفص الاتهام، صدرت على 11 منهم أحكام بالسجن لبضعة أشهر مع وقف التنفيذ. ولم تعتذر ميلا بل استغربت أن يجري تهديد إنسان بالقتل لأنه قال ما لا يعجب الغير. هل انتهت القضية؟ ومن يضمن ألا تتعرض لطعنة مفاجئة عند خروجها من مكمنها؟ كان لا بد من التهدئة. وبدون ذلك فإن حياتها ستكون جحيماً. وقد سعى محامي ميلا إلى إصلاح ذات البين، كما يقول المتفيقهون، ونجح في ترتيب زيارة لها إلى مسجد باريس الكبير.
في السابق، كان القائمون على المساجد يدخلون طرفاً مدعياً على كل من يتعرض للدين بإساءة علنية. وهناك قضايا كثيرة ضد فنانين وسياسيين ورسامي كاريكاتير ونجوم تلفزيون. لكن إمام مسجد باريس الكبير فاجأ الجميع ببادرة تعكس، بالفعل لا بالقول فحسب، سماحة إيمانه. إن ديناً يتبعه مليار مسلم لا يخاف من ميلا وتقولات ميلا.
تجولت البنت في المسجد لمدة ساعتين وكان منظرها غريباً على مرتاديه. تسريحة حليقة من جانبي الرأس والكثير من الحلقات المغروزة على مدار صوان الأذنين. قالت في تصريحاتها للصحافة إنها شعرت بفقدان كل شيء ولا بد من إنهاء هذه القضية. أما الرجل الحكيم إمام المسجد، فإنه مرشح لأن يواجه من سفاهة المتطرفين أضعاف حكمته. سيصبون على رأسه اللعنات لمجرد أنه تصرف بعقل. وهم لا يكرهون شيئاً مثل كراهيتهم للعقل. وعلى مر العصور كان ظلم ذوي القربى أشد مضاضة...