سوسن الشاعر
إعلامية بحرينية تكتب في بعض الصحف البحرينية منها «الوطن» و«بوابة العين الإخبارية». عضو في مجلس أمناء «جائزة الصحافة العربية». كانت مقدمة لبعض البرامج التليفزيونية. خريجة جامعة بيروت العربية.
TT

محاكم عدل أم محاكم منتصرين؟

«محكمة طوكيو» مسلسل تاريخي على «نتفليكس» من أربع حلقات، إنتاج ياباني باللغة الإنجليزية يروي قصة هذه المحاكمة التاريخية التي عقدت في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان، وتشكلت هذه المحكمة لمعاقبة المنهزمين من مجرمي الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى، وعلى رأسهم اليابانيون.
إلى يومنا هذا لم تتفق الدول على قاعدة موحدة لمحاكمة مجرمي الحروب، وليس هناك إجماع يضع الجميع تحت طائلة قانون محكمة جنائية دولية، وما زالت المحاولات مستمرة لوجود قانون دولي يتفق عليه الجميع يساهم في عدم الإفلات من العقاب، ويسمح للعدالة أن تأخذ مجراها ليداوي بها جراح الضحايا، ويمنع تغول العنف في الحروب، ويحقق أمن المدنيين، ويضبط إيقاع الصراعات، ولكن الجدل الذي أحدثته هاتان المحاكمتان جدير بأن نقف أمامه كثيراً لأنه يتعرض لمفهوم العدالة والإنصاف والحق، فمن له حق محاكمة الآخر؟ وكيف نضمن عدم استغلال المحاكمة للانتقام؟ وهل يجوز محاكمة المنتصر أيضاً؟ وهل يجوز تجريم فعل بلا نص قانوني يجرّمه؟ ومن سيضع هذا النص؟ جدل من النوع الذي يستهويني كمشاهدة ويفتح باب الفضول للاطلاع على مزيد من معرفة ظروف وملابسات تلك المحكمة؛ لأنها بالفعل حدث مفصلي جداً في تاريخ العلاقات الدولية والقانون الجنائي الذي ينظمها، إثره ما زال قائماً يؤثر فينا بشكل كبير ونرى انعكاساته على طبيعة العلاقة بيننا وبين الغرب الذي شكّل تلك المحاكمة، ومن قبلها بأشهر عدة شكل محكمة نورنبيرغ التي حاكموا فيها الضباط الألمان بعد أن وقّعت ألمانيا وثيقة استسلامها، ثم اعتمدوا وثيقة نورنبيرغ لعقد محكمة طوكيو رغم ما عليها من تحفظات حول نزاهتها وعدالتها والمبادئ التي أسست عليها.
تاريخياً، سنتغاضى عن المحاولات التي جرت قبل الحرب العالمية الأولى لتأسيس قانون دولي أو محاكمات دولية، بمعنى أن يحاكم قائد عسكري أو حاكم خارج حدود مملكته، وهي محاولات معدودة، خاصة أننا نتحدث عن اختراق مبدأ السيادة الدولية.
إنما المحاكمة الأولى المتعمدة التي جرت عام 1919 هي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث انهزمت ألمانيا وحاولت الدول الأوروبية المنتصرة تشكيل محكمة لإمبراطور ألمانيا غليوم لمحاسبته على شن الحرب وعلى الفظائع التي ارتكبت فيها، ولكن وللمفارقة اعترضت أميركا واليابان على محاكمة حاكم خارج حدود دولته، خاصة والإمبراطور قد فرّ إلى هولندا وطلب حق اللجوء بمساعدة البابا!
بعدها، بعام 1920 جرت أول محاولة لتأسيس محكمة عدل دولية في «عصبة الأمم»، أي قبل تحولها إلى «الأمم المتحدة»، وقُدم لذلك مشروعان لم يكتب لهما النجاح، إلى أن جاء عام 1937 تقدمت فرنسا بمقترح؛ وذلك لتعرّض ملك يوغسلافيا الحليف لفرنسا للاغتيال وتعرّض وزير خارجيتها للاعتداء، ويضم مقترحها وثيقتين مهمتين تحددان معنى الإرهاب، وتضع أسساً جديرة بالعناية، وعُقد مؤتمران، ومع ذلك لم يكتب للمشروع النجاح، فقد وقعت الحرب العالمية الثانية.
وبعد أن انتصر الحلفاء فيها وهُزمت ألمانيا واليابان تشكلت محكمة نورمبرغ لمحاكمة الضباط الألمان، ومحكمة طوكيو لمحاكمة الضباط اليابانيين بعد أن تم استبعاد محاكمة إمبراطور اليابان لأسباب سياسية، رغم علمهم بمسؤوليته عن قرار شن الحرب!
الوثيقة التي شكلت بناءً عليها محكمة نورمبيرغ هي ذاتها التي اعتمدت لتشكيل الثانية في طوكيو، كتبها قائد قوات التحالف الجنرال الأميركي ماك آرثر، ووقّع عليها قضاة من الدول المنتصرة، وأصدرت أحكاماً بإعدام مسؤولين ألمان ويابانيين ذوي مناصب سياسية إلى جانب عسكريين شاركوا في المعارك.
المفارقة، أن تعريف فعل الجرائم الإنسانية وجرائم تهديد السلم وجرائم العدوان كانت وما زالت موضع جدل، ومن له حق المحاكمة؟ سؤال هو الآخر ما زال أيضاً موضع جدل، خاصة أن أميركا التي ارتكبت أسوأ جريمة حرب حين أسقطت القنبلة النووية على هيروشيما قتلت في يوم واحد 80 ألف إنسان وأصابت 150 ألفاً، وتركت آثاراً بقيت لعشرات السنين تمثلت في مفعول الإشعاعات التي بقيت لأجيال يعاني منها اليابانيون، لم تتم محاكماتهم.
أنصح بمتابعة المسلسل والانتباه لموقفي القاضيين الهندي والهولندي المعترض على مبدأ المحاكمة ذاتها فقد أثارا نقاطاً مبدئية عجز بقية القضاة عن الإجابة عنها.
أما تاريخياً، فلم تعقد أي محاكمة دولية بعد هاتين المحاكمتين إلى التسعينات حين أنشئت محكمة دولية مؤقتة لمحاكمة مجرمي حروب الإبادة التي جرت في البوسنة والهرسك والتي جرت في رواندا، وهما محكمتان مؤقتتان أيضاً خضعتا لاعتبارات سياسية عديدة.
ولم يتفق العالم إلى الآن على قانون موحد ومحكمة يقبل الجميع الخضوع لها، فحتى اتفاق روما 1998 لإنشاء محكمة جنائية دولية الذي وافقت عليه 120 دولة امتنعت عن التصويت 21 ورفضته 7 دول، منها الولايات المتحدة الأميركية وقطر!