وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

التفكير الذي يؤدي إلى كوارث نفطية

عندما يذهب أحدنا للسوق لشراء حذاء ويدخل إلى أول محل يصادفه، فإن الأسعار التي سيراها في المحل الأول سوف تؤثر على قراراته الشرائية عندما يدخل المحل الذي يليه لشراء حذاء آخر. فإذا كان الحذاء الأول قيمته 100 دولار، والثاني 200 دولار، فإننا سنصف المحل الثاني بأنه مبالغ في السعر. وإذا كان الحذاء الأول 200 دولار والثاني 100 دولار فسوف نعتبر المحل الثاني أرخص.
هذا النوع من التفكير أحد الأخطاء التي نقع فيها كبشر عند اتخاذ القرارات بسبب تأثير عواطفنا وتجاربنا ومشاعرنا على تفكيرنا، وهو ما يعرف باسم التحيز الإدراكي (cognitive bias)، وسوف أستعرض هنا أكثر أنواع التحيز الإدراكي شيوعاً في قطاع النفط من خلال مشاهداتي واحتكاكي بهذا القطاع على مدى سنوات ماضية.
التحيز الأول هو تحيز الثقة المفرطة (Overconfidence Bias) ويقع عندما نفرط بالثقة في قدراتنا ومواهبنا أو قناعاتنا. وأكثر صور هذا التحيز هو الوهم بالتحكم في الأمور والتوقيت وقدرتنا على تحقيق رغباتنا فقط لأننا نريد ذلك. هذه الثقة رأيتها في مرات كثيرة، حيث يتصور كبار المنتجين أنهم قادرون على التحكم في السوق فقط لأن لديهم الذخيرة الكافية. وعندما بدأ إنتاج بحر الشمال في الثمانينات وغيرها من خارج منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في الزيادة كان الكل في أوبك يعتبرون باقي المنتجين عبارة عن منتجين صغار لا يستطيعون التأثير في السوق، وتكرر الأمر ذاته في السنوات العشر الماضية، حيث كانت النظرة لمنتجي النفط الصخري هي ذاتها وتم الاستهانة بهم. وحتى على مستوى عقليات المسؤولين في الشركات النفطية، فلا أتذكر أنني قابلت مسؤولا نفطيا - إلا ما ندر - لديه تواضع فكري وتقبل لأفكار الآخرين ودائماً ما يرون أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة والمعرفة الكاملة. ولا يزال هناك إيمان عميق بأن الطلب على النفط سيظل قوياً ولن يزحزحه شيء خلال السنوات القادمة، وتوجد استهانة بالبدائل التي تظهر كل يوم.
التحيز الثاني هو تحيز خدمة مصلحة الذات (Self - Serving Bias) وهذا التحيز ناشئ عن ربطنا كل النتائج الإيجابية بقدراتنا، وربط النتائج السلبية بأسباب خارجية مثل الحظ. وهذا من أكثر أنواع التحيز الإدراكي شيوعاً، إذ يعتقد الكثير من المخططين وشركات النفط أن ارتفاع أسعار النفط أو تحسن أوضاع السوق هي نتيجة خططهم أو سياساتهم بينما في حقيقة الأمر هناك عوامل أخرى خارجية تساهم في ذلك. وهذا الأمر شاهدته قبل سنوات عندما بدأت مخزونات النفط تنخفض نتيجة لتعطل إنتاج الحقول الأميركية جراء الأعاصير والظروف والمناخية، في الوقت الذي كان فيه تحالف أوبك+ يستهدف خفضها. وخطورة هذا التحيز هو أنه لا يجعل الجميع يرى حقيقة الأمور ويتم ربط النتائج ظناً بأمور لا علاقة لها بالتخطيط؛ رغم أن التخطيط لم يكن هو السبب وراء خفض الإنتاج. ويرتبط بهذا التحيز، تحيز آخر هو تحيز فوات الأوان (Hindsight Bias)، وهو عندما نتنبأ بشيء ويحدث فإننا نتصور أننا عرفنا كل شيء منذ البداية، وحصلت الأمور مثلما كنا نتوقع، ومرد هذا التحيز كذلك هو التفكير في الذات دون التفكير في العالم من حولنا.
التحيز الرابع هو الأكثر شيوعاً بين الناس والأكثر خطورة وهو تحيز التأكيد (Confirmation Bias) وبناء عليه يبحث الإنسان عن المعلومات التي تؤكد قناعاته فقط ولا يلتفت إلى أي معلومات أو حقائق تنافيها. هذا التحيز إن لم يتم علاجه سوف تنهار اقتصادات وأنظمة وقطاعات، لأن الكل يبحث عن الأدلة التي تناسبه وتؤكد بعض الأمور الخطيرة مثل أن الطلب على النفط باق، أو أن النفط الصخري لن ينمو، وحتى في الولايات المتحدة يظن العديد من المنتجين أن أوبك ماتت وليس لديها قدرة على التحكم في السوق مثل السابق، أو أن أسعار النفط ستظل عند مستوى معين ونتيجة لذلك يتفاجأ الجميع بكوارث لم تكن في حسبانهم وخططهم مما يؤدي إلى إفلاسات أو تدمير إنتاج أو تدمير طلب. وأتذكر كيف أن المضاربين في 2014 كانوا يتوقعون أن أوبك ستدافع عن سعر 100 دولار مما جعل شركات الطيران تتحوط عند سعر وقود بمائة دولار، ولكن أوبك تركت السعر يهبط وحصل ما حصل حينها.
الغريب في الأمر أن غالبية - إن لم يكن جل - مسؤولي النفط الكبار يدرسون هذه التحيزات في أي برنامج ماجستير للأعمال أو في أي دورة عن الإدارة، ورغم هذا لا يتعلمون مما درسوه، ولعل الثقافة هي السبب أو الضعف البشري الغالب هو سبب آخر، فعقدة التضخم و«الأنا» ملاحظة عند جميع من لديهم نفوذ إداري أو حكومي، ولا أحد يريد أن يظهر بأنه مخطئ. والأنجح هو من يتعامل مع العالم على أنه جزء صغير منه، وليس على أساس أنه هو محور هذا الكون والعالم يدور من حوله. وكلما سيطرنا على تحيزاتنا كانت قراراتنا أفضل.