نصري لحود
- محام لبناني
TT

علاقات أخوية... عصيّة على المؤامرات

قد يكون التاريخ اللبناني بكل أحداثه وحقباته هو الشاهد الأول والرئيسي على عمق العلاقات اللبنانية - السعودية، والتي تنطلق من الأخوة بالدرجة الأولى قبل أن تكون علاقة تعاون وتنسيق ودعم ورعاية واهتمام من المملكة العربية السعودية بلبنان وشعبه، من دون أي أهداف أو غايات، والأهم من دون أي شروط أو أثمان، كما كانت الحال بين لبنان ودولٍ إقليمية وعربية.
منذ ما قبل تأسيس لبنان، وإلى يومنا هذا، تمتد حلقات الدعم السعودي للشعب اللبناني، وذلك في أيام الحرب والسلم، كما في المحافل الدولية والعربية، فالثوابت التي يتم التأكيد عليها في أكثر من محطة وإطلالة للملوك والقيادات في المملكة تجاه لبنان، هي التي شكّلت سياجاً حامياً للشعب اللبناني، خصوصاً في الحروب والاجتياحات الإسرائيلية، حيث كانت الرياض تقود كل جهود الإنماء والإعمار، وتعطي من دون أي تفرقة بين الطوائف والمناطق، ومن دون أي شروط مسبقة أو مطالب أو تدخّلات في السياسات المعتمدة، بل جلّ ما تنشده المملكة هو توافق اللبنانيين ومبادرتهم إلى تحسين ظروف حياتهم والنهوض من الأزمات، مع الابتعاد عن الصراعات والانحياز للبنان فقط، ومواصلة الدور اللبناني الرائد في كل المجالات في المنطقة، في الثقافة والطب والسياحة والتربية، وإلى ما هنالك من تراث عريق نجح لبنان في الحفاظ عليه إلى أن أصابته الأزمات التي باتت تهدّد كيانه ومصيره وحياة أبنائه الكريمة على مختلف انتماءاتهم السياسية والطائفية.
في كل الاستحقاقات الوطنية والمصيرية التي واجهها لبنان، كانت المملكة حاضرة بقوة من أجل تلبية حاجة لبنان إلى سند قوي وشقيق أكبر وصديق جدير بالثقة، يلقي إليه اللبنانيون بكل تلاوينهم أعباءهم وهواجسهم وأزماتهم وحتى صراعاتهم، إلى أن كانت المحطة التاريخية، والتي كتبت النهاية لمعاناة الشعب اللبناني من الحرب الأهلية، في رعاية واستضافة اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب إلى غير رجعة، ثم وقفت إلى جانب اللبنانيين دولة وشعباً من أجل إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها، واستمرت عملية الدعم هذه على مدى سنوات إلى أن نجح لبنان في استعادة موقعه على الخريطة العربية بشكل خاص وعلى الخريطة العالمية بشكل عام بعد سنوات الحرب المدمّرة.
واليوم، وبعدما وقع لبنان ضحية أزمات تهدّد وجوده وكيانه، يبدو اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى الصديق الذي اعتاد الاتكاء عليه للنهوض، والذي لم يسبق له أن خذله، وذلك، على الرغم من «السقطات» والأخطاء المميتة التي ارتكبها البعض بحق المملكة، والتي لم تقابلها القيادة السعودية يوماً بالمثل، بل على العكس استمرت بالحفاظ على التزاماتها إزاء لبنان والشعب اللبناني، كما الجالية اللبنانية على أراضيها والتي يتجاوز عددها الـ200 ألف لبناني، يعملون في مجالات متنوّعة في بلد يعتبرونه وطنهم الثاني ومن دون تردّد، وقد أكدوا وأعلنوا ذلك خلال الأزمات الأخيرة.
وعشية الذكرى السنوية الأولى للانفجار الضخم الذي دمّر بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، لا يمكن أن ننسى مسارعة السعودية إلى مدّ يد العون إلى لبنان، للتخفيف من آثار وتداعيات الكارثة، التي ألمّت به في أعقاب الانفجار المروّع، حيث لم تتأخّر المملكة في مساعدة لبنان ودعمه على كل المستويات؛ إذ بادرت منذ الساعات الأولى للفاجعة إلى تقديم العون اللازم له، وقد تجسّد ذلك في تسيير جسر جوي من الرياض إلى بيروت.
واتّسمت استجابة السعودية للكارثة التي حلّت بلبنان، والتي سقط فيها أكثر من 6000 قتيل وجريح، بالتعاطي مع التحديات التي فرضها هذا الانفجار، بعدما دُمّرت مستشفيات العاصمة، وعجزت المستشفيات الأخرى عن استيعاب الجرحى، وتقطّع السبل بمئات الآلاف من اللبنانيين الذين أصبحوا بلا مأوى، فأرسلت المملكة كدفعة أولى شحنة إغاثية تتضمن أكثر من 120 طناً من الأدوية والأجهزة والمستلزمات الطبية والإسعافية والخيام والحقائب الإيوائية والمواد الغذائية.
ومن المؤكد أن الدعم السعودي المتنوّع خفّف من أعباء لبنان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ألقت بثقلها على كل القطاعات، ومنها قطاع الصحة الذي كان يعاني نقصاً في الأدوية والمعدات الطبية.
ولا بدّ هنا، من التذكير بأن السعودية تمتلك سجلاً حافلاً من الدعم المتنوّع للبنان، وقد قُدّرت المساعدات والهبات التي قدّمتها السعودية إلى لبنان في الفترة الممتدة ما بين العامين 1990 و2015 بعشرات المليارات من الدولارات الأميركي.
ولم تتوانَ السعودية عن المشاركة في دعم لبنان في كل الفعاليات، التي نُظمت لمساندة لبنان وإنعاش اقتصاده، ومنها مؤتمر باريس بنسخه الثلاثة، ومؤتمر «سيدر» الذي عقد في عام 2019.
لبنان مهمّ بالنسبة للمملكة، ومهمّ بالنسبة إلى سياستها العربية، ومهمّ بالنسبة لسياستها الدولية. لبنان نموذج وشهادة لمصلحة العرب، ويجب أن يتمسّكوا بهذه الشهادة، وذلك، وفق ما يتفق عليه اللبنانيون والعرب، وبصرف النظر عن كل ما تشهده العلاقات بين لبنان والدول العربية من تطورات ارتدت طابعاً سلبياً نتيجة سياسات معينة خاطئة، سرعان ما ظهرت نتائجها الكارثية على الواقع اللبناني في الدرجة الأولى، حيث انزلق لبنان إلى مستنقع من الخلافات والأزمات أدّت به إلى الانهيار الكبير اليوم على كل الصعد المالية والاقتصادية والمعيشية.
لم تتغيّر سياسة المملكة إزاء لبنان في الجوهر، ولو تبدّل أسلوبها في السنوات الأخيرة، فهي لم ولن تتخلّى عن علاقتها بلبنان، ولا عن دعمها له، وما توقّفت يوماً عن مطالبة المسؤولين بالتوافق فيما بينهم، والإسراع في تأليف حكومة قادرة على قيادة عملية إنقاذ البلد من الهاوية التي انزلق إليها لتعمل على مواجهة هذا الانهيار الخطير، علماً بأنه لم يعد بمقدورها التغافل عن الوقائع المناقضة لمقتضيات العلاقات الأخوية بين بلدين عربيين، فضلاً عن العلاقات الطبيعية بين الدول، والتي سُجلت من خلال مواقف وممارسات وحملات تجنّي لبعض القوى السياسية، والتي وقف بوجهها اللبنانيون بشكل عفوي.