وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

مستقبل شركات النفط يحتاج لصندوق ثالث

كيف تحافظ شركة عملاقة على موقعها التجاري والاستراتيجي؟ هذا السؤال كان محور دورة تنفيذية حضرتها في كلية (تك) لإدارة الأعمال، التابعة لجامعة دارتموث، إحدى جامعات (الأيفي ليق) الثماني في أميركا، وللمعلومية فإن تك هي أول كلية أعمال في العالم قدمت برنامج الماجستير في إدارة الأعمال، وما زالت إلى اليوم لا تقدم سوى درجة الماجستير وبرامج تنفيذية لتطوير قدرات المديرين.
والإجابة كانت عن هذا السؤال بحسب وجهة نظر أستاذ برنامج الأعمال الدولية واستراتيجية الابتكار في الجامعة هي أن على كل شركة إنشاء ثلاثة صناديق، الصندوق الأول عنوانه إدارة الحاضر، الصندوق الثاني عنوانه انتقاء ما ننساه من الماضي، والصندوق الثالث خلق المستقبل. هذه الصناديق هي الأنموذج للابتكار، والابتكار والاستراتيجية هي ذات الشيء بالنسبة للنظرية التي قدمت لنا في تك.
أنا لست من هواة استعارة النظريات من الجامعات المرموقة لجعل المقال أمام القارئ يبدو مهماً والنظريات ليست وحياً منزلاً، ولا أريد جذب انتباه مسؤولي شركات النفط حيث إن أسوأ مقال يمر على مسؤول في شركة نفطية هو ذلك الذي يأتي من شخص خارج القطاع في نظره لا يعلم شيئا عن السوق ولا عن الصناعة النفطية مهما كان متابعاً لها، فصناعة النفط وسوقه حكر على أبناء الشركات النفطية فقط، وكأن صناعة النفط ليست مجرد «بزنس» آخر.
ولكن ما دفعني لهذا المقال هو رغبتي في جعل الكل يفكر لا غير فأنا جزء من اقتصاد لن يزدهر دون إيجاد حلول عديدة للمستقبل، ونظريات «تك» تفتح مساحة للتفكير، فإن ما ينطبق على الشركات ينطبق على الدول والأفراد. ولو أردت الحديث عن الشركات النفطية التي يقوم عليها اقتصاد البلدان المصدرة للبترول مثل أرامكو السعودية أو مؤسسة البترول الكويتية وغيرها، فإن النتيجة التي سنصل لها واحدة، وهي أن لا استراتيجية من دون ابتكار، ومن دون ابتكار مصيرنا الفشل في المستقبل.
إن إدارة الحاضر تتطلب تطوير أساليب العمل والدخل الحالية لأنها المحرك الرئيسي، وهذا الصندوق يتطلب 70 في المائة من مواردنا وتفكيرنا. أما الصندوق الثاني، فيتطلب من الجميع انتقاء ما ننساه من الحاضر فليس كل الحاضر شرّاً، وعلى سبيل المثال، يجب أن تنسى أرامكو أنها الشركة الأولى والأكبر في إنتاج النفط في العالم، وأن المستقبل للنفط وأن كل قوتها في إنتاج المزيد من البراميل، لكن لا تنسى أن لديها مراكز بحثية وقطاعات ووحدات أعمال صالحة للمستقبل.
لا أحد يعلم ما هو المستقبل وما هي التقنيات التي ستكون هي أساس محركنا الاقتصادي، ولهذا فإن الصندوق الثالث يتطلب إجراء تجارب صغيرة لتجربة التقنيات والممارسات التي ستكون هي المحرك الرئيسي في المستقبل، وهنا ننفق الثلاثين في المائة المتبقية من مواردنا ووقتنا. ولأن الصندوق الثالث مهم جداً فإنه يستهدف الزبائن الجدد الذين ليسوا زبائن اليوم، لأن زبائن اليوم هم زبائن الصندوق الأول.
مشكلة الشركات والدول النفطية بحسب ما أراه هي أن الكل يضع سياسات لعشر سنوات قادمة أو أكثر بناء على تفكير ومعطيات اليوم، ولهذا يتم تعديل الاستراتيجيات كل سنتين إلى ثلاث سنوات لمواكبة تطورات المستقبل. لكن المستقبل مبني على المجهول، وكل ما يمكننا فعله هو إجراء تجارب متعددة وصغيرة من أجل الدخول في المستقبل، ولكن لا يمكن أن نتعامل مع المستقبل تعاملنا مع الحاضر القريب (سنة إلى سنتين). إن أكثر من سنتين هو حديث عن المجهول لا فائدة منه.
المشكلة الأخرى هي أن الدول والشركات النفطية لا تستمع للنصيحة من الخارج، وبحسب العديد من التجارب العالمية التي استعرضتها كلية تك، فإن الصندوق الثالث والابتكار لا يمكن أن تتطور إلا بفكر خارج المنظومة الحالية، وخارج الصندوق الأول. ومن بين التجارب التي علقت في ذهني هي تجربة التحول الرقمي لصحيفة «نيويورك تايمز»، حيث فشلت في بداية تجربتها لأنها أتت بشخص من خارج المنظومة تماماً لإدارة مشروع «نيويورك تايمز ديجيتال»، لكنها جعلته يدير فريقا كله جاء من فريق عملها الجاري، أو صندوقها الأول. ولهذا من يطور المكان، هو نفسه من يدير العمل اليومي لمدة 20 سنة، وعليه لا نرى نتائج وفكرا وإبداعا على مستوى كبير.
بالطبع ليست كل الشركات واحدة، ولدى أرامكو السعودية العديد من التقنيات ومراكز الأبحاث وأشخاص من خلفيات متعددة ومختلفة في مجلس إداراتها، ولكن كل هذا متوفر في الكثير من الشركات التي فشلت وتراجعت عالمياً. الأمر الآخر هو أن كل هذا الابتكار الذي نشاهده هو ابتكار يندرج تحت تحسين الصندوق الأول وإدارة الحاضر. إن اكتشاف تقنية الحفر الأفقي أو تحسين أداء محرك السيارة ليستهلك وقودا أقل أو إنتاج المزيد من الغاز ليست ضمن أفكار الصندوق الثالث والمستقبل. لكن التكسير الهيدروليكي يفتح أسواقا جديدة بنظام تنافسية مختلف، ويساعد على الوصول لكميات ضخمة لا يمكن الوصول لها بالطرق التقليدية.
والهيدروجين من النماذج الجيدة لتجارب ابتكار الصندوق الثالث، لأنه وقود جديد يفتح سوقا جديدة ولكن يجب علينا الدخول فيها بتجارب قابلة للتطور مع تحسن اقتصادات هذه السوق وتحسن صناعة السيارات التي تعمل بالهيدروجين. رغم كل هذا يبقى المستقبل للوقود الأكثر ملاءمة للبيئة، وهذا هو الاتجاه الذي تتجه له كل الشركات النفطية اليوم بضغط من المستثمرين الأخلاقيين في مجالس إدارتها. وحتى نصل إلى المستقبل نحتاج إلى نسيان أشياء كثيرة من بينها ثقافة عدم الاهتمام واللامبالاة بآراء من هم خارج الصندوق الأول، أو احتقار آراء أو نماذج وتجارب الصندوق الثالث، لأن المستقبل يعتمد على الفكر الذي ينتج تقنيات الغد في الغد، لا على تقنيات اليوم التي نتوهم أنها سوف تكون تقنية الغد. وما ينطبق على الشركات ينطبق على الدول والأفراد وأي قطاع آخر بنفس الآلية والطريقة.