خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

منصور عباس: الجملة التكتيكية

محقون، ولكن، من الذين أبرزوا التناقض في التحاق الحزب الإسلامجي الذي يتزعمه منصور عباس بالحكومة الإسرائيلية؟ الإسلامجية طالما خوّنوا من ينخرط في صفوف الدولة في إسرائيل، ثم الآن يتقدمون هم الصفوف، كأول حزب مستقل ناشئ من المجتمع الفلسطيني يشارك في الحكومة.
محقون، ولكن، فقد رأينا الإسلامجية يشنون حملات إعلامية على القواعد العسكرية الغربية إلا لو صارت على أرض حليف لهم. رأيناهم ينادون بالولاء والبراء، ثم يتباهون بعضوية تركيا في الناتو. ويصفون بالحكمة علاقتها بإسرائيل. رأيناهم يطاردون الانفتاح المجتمعي في مجتمعاتنا ثم يقدمون أنفسهم صوت التسامح في لوبيات النسويات والمثليين والتنوع العرقي.
موضع الاستدراك هنا أن في تحرك منصور عباس ما يتخطى ذلك ولا يبالي به، بل يستخدم الانتقاد الموجه إليه رافعة سياسية لصالحه. وبخطوة كتلك يقدم نفسه وتياره في صورة العنصر القادر فعلاً على اتخاذ الخطوات الجريئة، والقرارات الصعبة. وفي هذا استعارة عن رسوخهم على الأرض، وامتلاكهم القاعدة الشعبية الحقيقية، التي تمكنهم من ممارسة «القيادة».
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فهو إظهار لضعف النخب الأخرى المعبرة عن المجتمع الفلسطيني، نخب اليسار والعروبيين الفلسطينية، وامتدادات اليسار والعروبيين الإقليمية، التي فقدت القدرة على المفاجأة والإبداع السياسي، واكتفت في نسختها المعاصرة بالتمسك بذيول التيارات الإسلامية. أظهر منصور عباس عجزهم عن اتخاذ خطوات مماثلة، وعجزهم عن إثناء الإسلاميين وابتزازهم لكي لا يقدموا.
تخيل حجم الانتقادات والتخوينات والتقارير الإعلامية اليومية، والأشعار المذاعة على القنوات، والخطب الرنانة، التي كانت ستصدر في حق شخص لا ينتمي إلى صفوف الإسلامجية فعل الخطوة ذاتها. ربما ترى ذلك نفاقاً، وربما تكون محقاً، لكن ليس هذا المهم سياسياً. الآخرون - من هم - يرونه قوة ونفوذاً وقدرة قيادية. والآخرون هم من يخاطبهم منصور عباس برسالته الأولى، ورسالته التالية.
الرسالة الثانية أن الإسلامجية ليسوا كما يشيع خصومهم الإقليميون عنهم، بل إنهم المستعدون لمد الأيدي. إن فعلوها في إسرائيل، في «العداوة» الكبرى، فما بالك في غيرها؟!
يحدث هذا في الوقت الذي لا تستطيع نخب سياسية إقليمية تجاوز المفاهيم والعبارات والتعاطي السياسي الذي ورثته من أجيال سابقة، وتريد أن تلقنه لأجيال لاحقة. وتعتقد أنها تسدي بذلك خدمة عظيمة إلى «الأمة». لا تكتفي بهذا، بل تخوّن كل من يتخذ خطوة سلام.
ولأنني صرت أحمل شكاً عميقاً في الأوساط اليسارية والعروبية المعاصرة، وعلمتني خبرة السنوات السابقة كما خريطة التحالفات في المؤسسات الإعلامية والحقوقية، أنهم ليسوا أكثر من أذرع تنظيمية للإسلامجية، فقد صرت أرى ما يحدث بشقيه فعلاً متناغماً لا عفوياً.
الجناح اليساري العروبي من التحالف وظيفته إثبات أن غير الإسلامجية لا يملكون السلطة المعنوية. وشن الحملات على الدول والأفراد الذين يلمحون منهم توجهاً نحو الخيال السياسي المبدع. صاروا أشبه بالناقد الرياضي الذي يريدنا أن نكرر نفس الخطة، وقد حفظها المنافسون، وقد أثبتت بالنتيجة النهائية فشلها، في مباراة بعد مباراة. هذا الناقد ليس ناصحاً أميناً، بل ضمن تشكيلة من يريدون أن يزيحوك من المسابقة وأن يثبتوا أنك لا تحمل المسوّغات اللازمة للبقاء. نخبتنا الثقافية صار فيها الكثير من أمثال هؤلاء. إسلامجية تنظيماً، يساريون وعروبيون شعاراً. الإسلامجية لم ينجحوا إلى الحد الذي تمنوه في اختراق المؤسسات الأمنية، لكنهم نجحوا كثيراً في اختراق المؤسسة الإعلامية والثقافية والنخب الأدبية.
هل الرسالتان اللتان يبعث بهما منصور عباس والإسلامجية مدفوعتان فقط بتلك الدوافع التآمرية؟
لا. الإسلامجية احتكروا أيضاً حس الرغبة في السلطة، ولديهم مسلك لتحقيقه، يبدأ من حيازة السلطة الاجتماعية، إلى التحكم في الرأي العام، إلى تشغيل النخب لحسابهم، تمهيداً للوثبة النهائية. وفي الجانب الإيجابي، هذه الرغبة في السلطة تنشئ لدى التيار السياسي الاستعداد لتحمل المسؤولية، ما يجعله منفتحاً على الخيارات البراغماتية، «مش جاي يهرج». قارن هذا بالنخب اليسارية والعروبية التي صارت أشبه بكائن كاريكاتيري في مجال السياسة. صبي مراهق يتهرب من تحمل المسؤولية، ولا يتوانى عن مناكفة من يتحملها صباحاً ومساءً، حتى إن تولى أحدهم مسؤولية وزارة تحول إلى عدو وهدف لاتهاماتهم وتخوينهم. يحدث هذا مع السلطة الوطنية، وليس «سلطة الاحتلال». الكل المستحيل، أو اللاشيء المعفي من المسؤولية.
منصور عباس كان مستعداً للمشاركة في أي حكومة، أكانت بقيادة نتنياهو أم بقيادة بينيت. والرسالة التي قدمها للداخل، للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل، بسيطة. أنا هنا لكي أحقق لكم مكاسب يومية، في حياتكم العادية. ليس في السياسة هدف أسمى من هذا. غطيت خلال عملي الصحافي ثلاث مناسبات داخل إسرائيل، في ظروف مختلفة، حرب، وانتخابات، وزيارة البابا إلى بيت لحم. وسمح لي هذا بأن ألتقي بأنماط مختلفة من المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، وفي الضفة الغربية. الفلسطينيون ليسوا النشطاء، الفلسطينيون بشر، يرسلون أبناءهم إلى المدارس، ويعدون إفطاراً وغداءً وعشاءً، ويدفعون فواتير كهرباء وماء، ويوازنون بين هذا كله وبين القضية التي يختصرهم الإعلام الخارجي فيها. تذكروا أن الفلسطينيين داخل إسرائيل يقتربون من المليونين، وقارنوا هذا بعدد الأصوات التي ترونها في الإعلام، أو التي تشارك في «الفعاليات» السياسية.
بقي سؤال لم أجب عنه، من هم الآخرون الذين كتب منصور عباس عنوانهم على رسالتيه؟
اتفاقات أبراهام أثبتت قدرة قوى إقليمية على تجاوز، وتهميش، الرافضين للسلام. وانهيار الاتفاق النووي كشف هشاشة إيران وعدم استحقاقها لتنازلات إدارة الديمقراط. خلق هذا تحدياً إضافياً لبايدن الذي سبق ترمب وخلفه.
خطوة منصور عباس، للمفارقة، تقدم نفسها في خدمة إيران وبايدن كليهما في الاتفاق النووي، فيعيد الإسلامجية موضعة أنفسهم كورقة مهمة سياسياً. لا ننكر أنها خطوة «ملعوبة» في مباراة السياسة.