فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

غزة ـ إسرائيل: تنافس الوسطاء؟

يعمل مجتمع الخبراء الروس، الذي أنتمي إليه، على استنباط الدروس من الجولة الأخيرة للحرب التي تم إخماد نارها مؤخراً بين إسرائيل و«حماس»، والتي وفقاً لمعظم المحللين، لا وجود لمنتصر فيها. فإذا كان كل شيء فيما يتعلق بجذور وأسباب الجولة الأخيرة للتفاقم الحاد للصراع الذي طال أمده واضحاً إلى حد ما، فإن الجواب عن السؤال: كيف تم إيقافها، لا يزال يكتنفه الغموض ويثير العديد من الشائعات، وهو ما تفسره الطبيعة المغلقة للعملية. لذلك يعمل الخبراء على تحليل مساهمة الفاعلين الخارجيين في جهود التهدئة، والتي تجلت من جهة في تشابه المواقف وتعاون عدد من الحكومات، ومن جهة أخرى، في بعض التنافس فيما بينها.
تم الاعتراف بالدور الخاص لمصر في هذا الإنجاز الفعال والسريع لاتفاق وقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة. في هذا السياق، تتم دراسة التصريحات التي تدلي بها مختلف المؤسسات الفكرية الأجنبية. يمكن الاتفاق مع بعضها، والجدل بشأن بعضها الآخر. لكن ما يصعب الجدل حوله هو استنتاج الصحافي المصري المطّلع، وإن كان من خارج البلاد، مهند صبري، في مقابلة نشرها مركز كارنيغي للشرق الأوسط مع مايكل يونغ، بأن استعادة مصر مكانة الوسيط الأقوى والأجدر كان انتصاراً أكيداً للرئيس عبد الفتاح السيسي. مصر استحقت بالفعل الإشادة والاعتراف بدورها من قبل الأطراف المتصارعة نفسها، أي إسرائيل وغزة، ومن قِبل الرئيس الأميركي بايدن نفسه ومن قادة آخرين من العالم. لقد دُهش المحللون الروس، وكذلك المشاركون في المقابلة من كارنيغي، بمدى سرعة عودة القاهرة للاتصال بقادة «حماس» بعد فترة من العداء. ومن العلامات الجلية للاقتراب الجديد فتح معبر رفح الذي جاء مباشرة بعد التوصل للاتفاق.
ومع ذلك، تنافس، إلى حد ما، الولايات المتحدة أيضاً على دور الوسيط صانع السلام، التي ومن دون شك لدى رئيسها تأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي. لقد تغيرت سياسة الرئيس بايدن لصالح اعتراف أكبر بحقوق الفلسطينيين مقارنة بسياسة ترمب؛ مما يفتح فرصاً للتفاعل بين واشنطن وموسكو. الآن يمكننا الحديث عن نوع من التقارب بين مواقف روسيا والولايات المتحدة، رغم كل الخلافات المتبقية بينهما. من غير المستبعد أن الاتهامات الموجهة لواشنطن من خصومها الجيوسياسيين التقليديين بتعطيل وقف إطلاق النار كانت مبنية على حقيقة أن الولايات المتحدة في البداية لم تكن ترغب في إعطاء الدور الأول لمصر. فهل فعلاً كان الأمر كذلك؟
وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، قال في مقابلة مع شبكة ABC News الأميركية في 22 مايو (أيار) من هذا العام، إن الولايات المتحدة تعتبر حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، مشيراً إلى أن للفلسطينيين الحق في إقامة دولتهم. بالإضافة إلى ذلك، فهي الطريقة الوحيدة «لتأمين مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية». المحادثات الهاتفية النشطة لوزير الخارجية الأميركي مع عدد من زملائه في الشرق الأوسط أثناء التصعيد الدموي للصراع لم تمر من دون أن تلفت انتباه موسكو. حسب ما يبدو، أن المحادثة مع وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير فيصل بن فرحان آل سعود كانت مهمة، حيث تم التأكيد على ضرورة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة «حماس» - قطاع غزة. يمكن الافتراض أن المملكة لعبت أيضاً دوراً في عملية التهدئة. حتى أن الخبراء الروس فوجئوا بمناشدة الولايات المتحدة المجتمع الدولي لدعم إعادة إعمار قطاع غزة وتحت حكم «حماس»، التي تعتبرها أميركا «حركة إرهابية».
أما بالنسبة إلى لاعب مهم مثل روسيا، فإن مساهمتها في هذه العملية لا يمكن إنكارها وتستند إلى احترام القانون الدولي، والنهج المتكامل، واستخدام المؤسسات الجماعية. في الوقت نفسه، تستخدم موسكو، كما تؤكد الخبيرة الروسية إيرينا زفياغلسكايا، ميزتها الفريدة، التي تكمن في قدرتها على التواصل مع جميع اللاعبين الإقليميين: الدول العربية، إسرائيل، «فتح»، «حماس»، «حزب الله»، إيران، تركيا. من المفهوم أنه كان هناك العديد من المحادثات الهاتفية التي جرت خلال الحرب الأخيرة. وزارة الخارجية الروسية أعلنت، في 17 مايو، أن تفاقم الوضع في منطقة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي يتطلب اجتماع اللجنة الرباعية للوسطاء على المستوى الوزاري. لقد أعلنت عن ذلك عقب نتائج المشاورات الطارئة التي عقدت بين الممثلين الخاصين عن روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ولفت خلالها الوفد الروسي الانتباه إلى أنه من المهم للغاية البدء في أقرب وقت ممكن في تهيئة الظروف المواتية لفتح آفاق سياسية لحل الأزمة واستئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية المباشرة. أود أن ألفت الانتباه إلى جملة «الفلسطينية - الإسرائيلية» بشكل عام. وزارة الخارجية رأت أن هذا هو الهدف الذي يجب أن تصبو إليه مفاوضات «الرباعية» على المستوى الوزاري، وكذلك مشاورات «الرباعية» مع الدول العربية الرئيسية، ومع الفلسطينيين والإسرائيليين.
أود الإشارة هنا إلى أن الصين، التي امتنعت في السابق عن دور مستقل ونشط في التسوية في الشرق الأوسط، باتت الآن أكثر نشاطاً في هذا الاتجاه. فلقد اقترحت القيادة الصينية بكين كمنصة لرعاية المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. لكن في المقابل، ماذا عن اقتراح مماثل من موسكو؟ على أي حال، تدرك موسكو أن دولة عظيمة وصديقة لروسيا مثل الصين، في هذه الحالة، كما في حالات أخرى، تسترشد بمصالحها الخاصة. بمعنى آخر، لا وجود هنا لأي حديث عن أي نوع من المنافسة بينهما.
مع وجود دور لعدد كبير من اللاعبين في تحقيق وقف إطلاق النار، لا يمكن استبعاد حقيقة أن قادة كل من إسرائيل و«حماس» استطاعوا في لحظة لم يستجيبوا لدعوات المتطرفين، مثل الدعوة إلى إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وغيرها من الدعوات. غير أن، هناك عدداً كبيراً من المحللين الذين يعتقدون أنه لولا تدخل القوى الخارجية، لكان من الممكن أن تستمر إراقة الدماء متجاوزة الخطوط الحمراء الخطيرة.
بالطبع، تود موسكو أن تتفق الأحزاب والجبهات والمنظمات الفلسطينية على توحيد الجهود وإنشاء هيئات حكومية موحدة والعمل كطرف واحد على منصة واحدة لمنظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات مع إسرائيل. لقد كنت أنا شخصياً مشرفاً على لقاءين فلسطينيين رئيسيين في موسكو، رغم أنهما لم يفضيا إلى النتيجة المرجوة، فإنه كان لهما صدى إيجابي ملحوظ، حيث أعرب المشاركون بوضوح عن رغبتهم في التوصل إلى اتفاق.
تضم جوقة أصوات مجموعات الوسطاء أصوات بعض الشخصيات المنفردة والمهمة أيضاً في سياسات الشرق الأوسط. على سبيل المثال، ذكّر غيرشون باسكن، المعروف بالنسبة لي (وليس لي فقط) مؤيد السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، خلال دعوته إلى مفاوضات بين إسرائيل وحركة «حماس»، ذكّر بدوره الشخصي في الماضي كمدير مفوض من قبل إسرائيل لقناة سرية مع «حماس»، تم عبرها إطلاق سراح جلعاد شليط في 2011، بعد ما كانت قد احتجزته «حماس» لمدة خمس سنوات وأربعة أشهر.
إذن، ما هي المعلومة المهمة التي يكشف عنها باسكن المعروفة لدى الحكومات، ولكنها ليست معروفة للجمهور بأسره؟ يتذكر، وليس من دون فخر، كيف بنى اتصالات تؤدي مباشرة إلى قائد كتائب عز الدين القسام، أحمد الجعبري، وكيف حصل أحد كبار ضباط الموساد على إذن من نتنياهو لاستخدام قناة اتصال باسكن السرية مع «حماس». وفور إطلاق سراح شليط، بدأ باسكن والقيادي في «حماس»، الدكتور غازي حمد، العمل على مبادرة مشتركة لتحقيق وقف طويل الأمد لإطلاق النار بين إسرائيل وهذه الحركة الفلسطينية.
مما لا شك فيه أن باسكن يكشف عن تفاصيل كثيرة عن مشاركته في العمليات السرية السابقة للمخابرات الإسرائيلية لكي يظهر علانية أن قدراته، التي لا يملكها وسطاء آخرون، قد تكون مطلوبة اليوم. أكتب عن هذا فقط من أجل إثارة السؤال عن مكان ودور الأفراد الفاعلين في حفظ السلام في إطار تحليل العلوم السياسية. هل من الممكن اعتبار أن شخصاً مثل غيرشون باسكن، إلى حد ما، قد عمل ويمكنه مرة أخرى العمل منافساً للإدارات الحكومية، على وجه الخصوص، لمصر نفسها، في محاولة لتحقيق، إن لم يكن تسوية عامة، فعلى الأقل بعض عناصرها (خاصة الإفراج عن أسرى ومعتقلين) في صراع حاد بين الطرفين؟ تجدر الإشارة عند الحديث عن النزاع المسلح الذي تم وقفه للتو بين «حماس» وإسرائيل، إلى أن هذا الوسيط الفردي يشير إلى أن «أساس الحرب الحالية هو الاحتلال... بين نهر الأردن وغزة واقع ثنائي القومية لدولة واحدة، وفي غزة كيان إسلامي فلسطيني يعيش فيه مليونان ونصف المليون نسمة في فقر ويأس، تُركوا ليبقوا تحت رحمة (حماس) وإسرائيل». بالطبع، يعتقد باسكن وبحق أنه لا يمكن أن يكون هناك تحسن في الوضع في غزة دون مفاوضات مباشرة بين «حماس» وإسرائيل. بالطبع الأمر هو كذلك، لكن ماذا عن محادثات السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية؟

- خاص بـ«الشرق الأوسط»