د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

المثقف والقدرة على التمييز

تكمن فرادة المثقف في القدرة الفائقة على التمييز والتقويم والاستشراف. هذا ما علّمنا إياه التاريخ الخاص بمسارات المثقفين الكبار وكيفية مقاربتهم للأحداث المعقّدة والظواهر المركّبة التي عرفتْها مجتمعاتهم.
ما نلاحظه في الوقت الراهن هو أن ملامح المثقف اختلف البعضُ منها عن التمثلات التي نستبطنها عن صورة المثقف ووظيفته ودوره وخصائصه. طبعاً فهم ما طرأ على ملامح المثقف من تغير، إنّما يندرج ضمن ما حصل من تغييرات شملت البناء الاجتماعي ككل. غير أن هذه الحقيقة لا تمنعنا من الانتباه إلى أن بُعداً أساسياً قد انتابه نوع من التشويش في وظيفة المثقف، وهو ملمح يُصيب في العمق والجوهر معنى أن تكون مثقفاً.
يتمثل الملمح المقصود في القدرة على التمييز والترفع عن الوقوع في فخ تقاطع المصالح الذي قد يفيد السياسي ولكنّه تنازُل موجع إذا ما قام به المثقف.
لقد بات المثقف يستبطن طريقة السياسي في التفكير ورد الفعل، والحال أن السياسي الأفضل هو من كان يشبه المثقف في القدرة على التمييز والانتصار للمبادئ الكبرى رغم الصعوبات والإكراهات. السؤال هو: كيف يقبل المثقف تبني طريقة الفاعل السياسي في التكتيك والمناورة والبراغماتية والتفاوض؟
من حق السياسي الانخراط في أسلوب الواقعية وأن يكون عملياً على حساب الأفكار والمبادئ، لأن الفعل السياسي بحكم آنيّته يسمح بالمناورة والمزايدة والانقلاب الكامل على سياسة سابقة، وذلك باعتبار أن السياسي يحاسَب على النتائج والشعوب تصوت لمن يغير واقعها بالأرقام والإحصائيات والأسعار. ولكن المثقف هو من يغيّر عقول الناس ومَن يحميهم من هيمنة الواقع وتأثيره على الإبصار والرؤية السليمة والقدرة على التمييز بين الأشياء والأفكار والمبادئ والقيم.
انخرط مثقفون كثيرون في بلداننا اليوم في الخلط بين وظيفتي المثقف والسياسي، حتى إنك تكاد لا تفرّق بينهما. وهو مظهر تمكن ملاحظته بسهولة إذا ما حاولنا التمعن في مواقف بعض المثقفين سواء التي يعبّرون عنها كتابةً في الصحف أو في المشاركات الإذاعية والتلفزية أو التي ينشرونها في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
وكي نوضح فكرتنا أكثر سأضرب مثالاً من تونس: من حق المثقف الحداثي أن يعارض وجود الإسلام السياسي في الحكم وعدّه خطراً على فكرة الدولة الوطنية وعلى مكاسب التحديث وعلى كل ما يراه ضامناً للتفتح وللحريات وللعقلانية والمواطنة. بل إن المطلوب من المثقف في الوقت الراهن هو الدفاع المستميت عن الحرية والعقل والنّقد وعمّا يسير بمجتمعه إلى التقدم والتعايش الاجتماعي.
ولكن عندما يقبل المثقف لتأمين ما يراه صالحاً الانخراط في سياسة تقاطع المصالح والرهان على طرف سياسي يقاسمه الخصومة مع الإسلام السياسي، ومهما كان ذلك الطرف السياسي، فإن وظيفة المثقف تنحرف بشدة عن المبدأ وتنخرط في موازين القوى والحرب على الأرض السياسية. أي إن المثقف أصبح لا يمانع في مساندة مَن يشاركه المعركة حتى لو كان هذا الطرف يتعارض ومبادئ المثقف ذاته. وكما نرى فهذا تكتيك رجال السياسة والعسكر أكثر منه أسلوب المثقف في معالجة الواقع.
ينطلق هؤلاء المثقفون من فكرة أنْ لا شيء أخطر على مجتمعاتنا من الإسلام السياسي، وأن المرحلة الأولى تقتضي مساندة والانخراط قلباً وقالباً وصوتاً وموقفاً مع كل من يخدم هدف قضم أظافر الأحزاب السياسية الدينية وإضعافها. وما يَغفل عنه البعض هو أن بعد المرحلة الأولى هناك مرحلة ثانية وسيُعدّ السياسي الفائز على الإسلام السياسي أنه مدعوم من المثقفين لذاته ولصفاته ولن يقبل فيما بعد النقد والمحاسبة... وهكذا تختلط الأوراق والرؤى ويسمح المثقف بتوظيفه طوعاً وبمبادرة منه.
إن القدرة على التمييز تعني أن نميّز كل الذين يمثلون خطراً على الديمقراطية وعلى الحريات وعلى التصور المجتمعي محل الطموح بمن في ذلك ممثلو الإسلام السياسي. ولا أفضلية لأي طرف على غيره إلا بما يمثله من مبادئ تتقاطع مع القيم والمبادئ الكبرى التي يناضل المثقفون من أجلها. لذلك فإن ممارسة الإبصار بعين واحدة وتعليل ذلك بأنه مرحليّ، لا يمكن أن تكوّن خطاب مثقف يعي أن هويته كمثقف تقوم أولاً وأساساً على مبدأ ما يمتلكه من قدرة استثنائية على التمييز.
كما يخطئ المثقف إذا ما اعتقد أن مساندته فاعلة بالشكل الذي يتصوره. فعملياً الموازين للأقوى وللقاعدة الشعبية وللقدرة على إشباع التوقعات. فأهمية المثقف في موقفه المبدئي فقط، وتلك وظيفة لا يستهان بها. لذلك فإن تقليد السياسي في طريقة تصرفه وأساليبه لن تنفع المثقف في شيء، فهو لا يمتلك القرار وليس في موقع مسؤولية فتكون النتيجة أنه ليس سياسياً ليفعل ما يعتقد فيه، إضافة إلى أنه يتخلى عن وظيفة المثقف بتبنيه سياسة تقاطُع المصالح والمعارك على مراحل وجولات والتكتيك ضد خصم واحد مع خصوم مستقبليين.
أظن أن المثقف صاحب القدرة على التمييز في غنى عن هذه الهفوة: المثقف ضد كل الأخطار دفعة واحدة ولا يعطي صوته لسياسي يخوض معركة الحكم ويمكّنه من توظيفه.