ليونيل لورانت
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

أوروبا والجائحة... دروس وعبر

بدت حملة توزيع اللقاحات المضادة لفيروس «كورونا المستجد» في بلدان الاتحاد الأوروبي كما لو أنَّها عبارة عن مزيج من المزاح السيئ مع الأحلام الكابوسية المريعة. فكل ما كان متوقعاً له أن يحدث بصورة خاطئة تقريباً قد حدث: من حالات التأخير في الإمدادات، والحادثة الدبلوماسية الغريبة، والسمعة السيئة للغاية التي لازمت لقاح أسترازينيكا. وذلك فضلاً عن دخول اقتصاد منطقة اليورو، الذي تضرر أيما تضرر من الموجات المتتالية لهجوم الفيروس وتحوراته، في حالة من الركود المزدوج في فترة سابقة من العام الجاري.
ومع ذلك، نجحت الكتلة الأوروبية مجتمعة في مجاوزة منعطف بالغ التأزم في الأيام الأخيرة. إذ بدأت الجهود الحثيثة المتضافرة لتوصيل اللقاحات إلى مستحقيها من المواطنين تؤتي ثمارها المنشودة فعلاً، وذلك بمعاونة من التوسع الكبير في الإمداد بالجرعات اللازمة مع ممارسة الضغوط الهائلة من أجل الفرار من عمليات الإغلاق الصارمة التي تسحق أوصال المجتمعات المعاصرة سحقاً شديداً ومؤلماً. يبلغ متوسط المعدل اليومي للتطعيم في بلدان الاتحاد الأوروبي راهناً نحو 7 جرعات لكل 1000 مواطن، الأمر الذي يعني انسداد الفجوة تماماً بين الاتحاد الأوروبي وبين كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة على نفس المضمار خلال الأسبوع الجاري. هذا، ولقد حطمت ألمانيا الأرقام القياسية في الفترة الأخيرة بالوصول إلى 1.1 مليون جرعة تطعيم مسجلة في يوم واحد على طول البلاد وعرضها، في حين أن فرنسا لا تزال في منتصف الطريق إلى ذلك محاولة اللحاق بالقطار الألماني أو البريطاني السريع. وهناك علامات تشير بالفعل إلى أن حالة التفاؤل الملموسة حديثاً في الاتحاد الأوروبي بدأت تنعكس على الأوضاع الاقتصادية هناك.
شرع الاتحاد الأوروبي في تحسين وتيرة توزيع التطعيمات بين مختلف بلدان الاتحاد، وبدأت الفوائد الناجمة من وراء ذلك في الظهور لدى أكثر بلدان الكتلة الأوروبية تضرراً جراء تفشي الفيروس القاتل.
جرى استبدال النعرات الأولى للحذر والحيطة البيروقراطية الصارمة والمميزة في الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف أكثر فاعلية بالإقدام على تنفيذ الأمور؛ إذ تحولت ملاعب كرة القدم الفرنسية والمتاحف الإيطالية إلى مراكز جديدة ومفتوحة للحصول على جرعات اللقاح، في حين تحولت جهود أطباء الأسر والعائلات والصيادلة المقربين من الناس إلى توزيع الجرعات على المرضى في المدن والأحياء. ورغم بعض التحولات غير السارة ذات الصلة بالسلامة والصحة العامة فيما يتعلق بتناول لقاح أسترازينيكا المثير للجدل، التي أسفرت في كثير من الأماكن عن البطء الشديد في توزيع جرعات اللقاح، فإن حالة التردد والإحجام الشديدة بشأن الإقدام على تناول اللقاح قد بدأت في التراجع والانحسار، لا سيما مع النظر إلى التقدم المحرز حديثاً في إسرائيل أو المملكة المتحدة بعين الحسد والغيرة. كما يشهد الاتحاد الأوروبي فورة متزايدة في صناعة اللقاحات، لا سيما مع تطلعات الاتحاد للوصول إلى قدرة إنتاج سنوية تبلغ 3 مليارات جرعة بحلول العام الجاري.
حصل أكثر من 70 مليون مواطن أوروبي على جرعة واحدة على الأقل من جرعات اللقاح حتى الآن، وهذا الرقم يعادل نحو خُمس إجمالي سكان الاتحاد الأوروبي قاطبة. وحتى مع حقيقة أن الكتلة الأوروبية لا تزال على مسافة عدة شهور من بلوغ حد التغطية المستهدف بالوصول إلى نسبة 70 في المائة من تطعيم المواطنين البالغين، إلا أن تلك النسبة المحققة حتى الآن تملك تأثيراً كبيراً ومباشراً على الفيروس وانتشاره. حيث يتحرك منحنى الإصابات والوفيات الجديدة في مسار تنازلي نحو الأسفل في كل من فرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، سيما بعد الموجة الثالثة التي عرفت معنى الازدحام الشديد في المستشفيات وإغلاق الشركات وتعطل الأعمال. وشرعت بعض البلدان في التخفيف التدريجي من قرارات الإغلاق بصفة مؤقتة بين الفينة والأخرى، ونأمل ألا نعود إلى فرض الإغلاق العام الصارم مجدداً في هذه المرة.
يجري هناك الكثير من العمل والجهد من أجل الوصول إلى المرحلة التالية بصورة سليمة. ويعد فصل الصيف المقبل من أفضل الفرص السانحة أمام الاتحاد الأوروبي في شهود أقرب صورة من صور الحياة الطبيعية في منطقة هائلة محرومة للغاية من التدفق السياحي، والإنفاق الاستهلاكي. ويحاول القادة والزعماء بث روح الثقة والتفاؤل؛ إذ دعا ماريو دراغي، رئيس الوزراء الإيطالي، العالم بأسره للبدء في حجز إجازات العطلات لقضائها في إيطاليا، في حين يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التوسع قدر الإمكان في أهلية الحصول على جرعات اللقاح لكل المواطنين البالغين في البلاد قبل الموعد المحدد، وأعلن بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، لمواطني بلاده أن إسبانيا قد وصلت إلى عتبة «بداية النهاية» للقضاء على الفيروس وجائحته. ولقد أحرزت المملكة المتحدة نجاحاً مميزاً من حيث الانخفاض الكبير في حالات الإصابة وحالات الوفيات بالفيروس القاتل بين مختلف البلدان الأوروبية المجاورة، ويرجع ذلك جزئياً إلى ارتفاع معدلات التطعيم في جميع أرجاء البلاد.
والأمر المطلوب حالياً يتمثل في ضمان بقاء جميع الخدمات اللوجيستية وأسلوب إدارة الجائحة الأساسية على نفس المسار الصحيح الراهن. مع ضرورة التزام الحيطة والحذر برغم كل شيء؛ إذ ترفع الحكومة الفرنسية القيود العامة وفقاً لمستويات الحالات اليومية المتلقية للقاح عند نسبة 300 لكل مليون مواطن، أي ما يوازي ضعف المستوى الحالي المعمول به في الولايات المتحدة، ونحو 10 أضعاف المعدل المتبع في المملكة المتحدة المجاورة. وبالاستناد إلى تجارب البلدان الأخرى، ربما نلحظ بطئاً في وتيرة توزيع جرعات اللقاح سيما مع الوصول لمستوى تأهل المواطنين الأصغر سناً والأقل ضعفاً للحصول على اللقاح في ظل تخوفهم وترددهم في الإقدام على هذه الخطوة المهمة. وبقي أن نرى مدى جدوى المحفزات التي تحاولها الحكومات في التغيير من هذه المواقف السلبية، مثالاً بعرض الحكومة الألمانية التخفيف من قيود الإغلاق على المواطنين الذين حصلوا بالفعل على اللقاح.
فإن جاءنا فصل الصيف بأيام أكثر إشراقاً، فلسوف يحتاج المستهلكون إلى إشارات موثوق فيها للتأكد من أن إعادة افتتاح منافذ الاقتصاد سوف تؤدي فعلاً إلى إنعاش الإنفاق الذي يتوق إليه خبراء الاقتصاد والمستثمرون على حد سواء. الأمر الذي يعني الحد من دعاوى وقف الدعم المالي الحكومي بوتيرة سريعة في خضم ارتفاع الأسعار والضعف الواضح في سوق العمل.
كما أنه يعني كذلك الوفاء بتعهدات خطة المحفزات المالية الأوروبية البالغة قيمتها 750 مليار يورو (نحو 905 مليارات دولار)، التي من المقرر الإفراج عن دفعتها الأولى بحلول فصل الصيف المقبل. يعتقد خبراء الاقتصاد في مصرف باركليز البريطاني أن الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو لن يرجع إلى مستوياته المسجلة لما قبل أزمة فيروس كورونا، وحتى بلوغ منتصف العام المقبل على أدنى تقدير، مع توقعات منهم ببقاء ندوب الوباء على وجه الاقتصاد الأوروبي لفترة ليست بالقصيرة.
لا يمكن اعتبار أي دولة أو منطقة بمعزل تماماً عن مجريات هذه الأزمة أو تبعاتها، وهذا ليس بالوقت المناسب للشعور بحالة النصر المفرطة، لا سيما مع الكارثة الهائلة التي تمر بها الهند في الآونة الراهنة. ولكن، من المشجع، وربما من المفيد، أن نرى بلدان الاتحاد الأوروبي وهي تتعلم دروسها وتستفيد من أخطاء الماضي مع محاولة اقتناص الفرصة السانحة للتعويض عن الوقت الضائع.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»