نيال فيرغسون
TT

الكارثة العالمية التالية في الطريق

لم ينته وباء «كوفيد19» بعد، ومع ذلك؛ من بين الأمور التي أصبحت واضحة بالفعل أن اللورد ريز؛ الفلكي الملكي البريطاني، فاز في رهانه الذي أطلقه عام 2017 في مواجهة عالم النفس بجامعة «هارفارد» ستيفين بينكر، حول أن «حدثاً إرهابياً بيولوجياً أو خطأً بيولوجياً سيؤدي إلى موت مليون شخص بحادث واحد في غضون 6 أشهر تبدأ في موعد أقصاه 31 ديسمبر (كانون الأول) 2020».
العام الماضي، أعلنت جامعة «جونز هوبكينز» أن فيروس «سارس - كوف - 2» حصد أرواح 1.8 مليون شخص. ومن الممكن أن يتجاوز عدد ضحايا الفيروس عالمياً 5 ملايين بحلول 1 أغسطس (آب)، أو 9 ملايين؛ إذا ما قبلنا بالمراجعة الدراماتيكية التي رفعت الأرقام للأعلى على نحو شديد من جانب «معهد القياسات الصحية والتقييم». وبطبيعة الحال، كان يمكن أن يصبح الوضع أسوأ من ذلك.
في مارس (آذار) 2020، أكد مختصون بمجال الأوبئة أنه من دون إقرار إجراءات كبرى صارمة لفرض التباعد الاجتماعي والإغلاق الاقتصادي، يمكن أن تصل المحصلة النهائية للوفيات إلى ما بين 30 و40 مليون شخص. إلا إن تكلفة هذه التدخلات غير الدوائية كانت فادحة؛ على سبيل المثال، كلفت هذه الإجراءات الولايات المتحدة وحدها نحو 90 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي.
كانت النبوءة التي أطلقها اللورد ريز من التحذيرات الكثيرة قبل عام 2020 حول أن التهديد الأكثر وضوحاً في مواجهة البشرية ظهور كائن مُمرض جديد وتسببه في وباء عالمي. ومع ذلك؛ لم تترجم هذه التحذيرات إلى إجراءات سريعة وفاعلة داخل معظم الدول عندما ضرب الوباء. والتساؤل هنا: لماذا جاء تعامل كثير من الدول الديمقراطية مع هذه الأزمة بهذه الدرجة الكبيرة من الرداءة؟
ألقى البعض باللوم على الزعماء الشعبويين أمثال الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، والآن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي. بالتأكيد؛ لم يتصرف هؤلاء القادة على نحو يستحق الإشادة. ومع ذلك، فإنه فيما يخص المعدلات الضخمة من الوفيات، نجد أن الوضع في بلجيكا العام الماضي كان أشد سوءاً بكثير منه داخل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والبرازيل. ومع ذلك؛ كان رئيس وزراء بلجيكا على امتداد الجزء الأكبر من 2020 هو الليبرالية صوفي ويلميس. كما أن بيرو تضررت من الوباء أكثر من أي دولة كبيرة أخرى تقريباً، رغم أن رئيسها مارتن فيزكارا لا يمكن وصفه بالشعبوي.
والسؤال: هل تعدّ الديمقراطية في حد ذاتها مشكلة؟ لا. في الصين، استجابت دولة الحزب الواحد لتفشي فيروس «كورونا» المستجد على النحو ذاته الذي استجاب به نظيرها السوفياتي لكارثة «تشيرنوبل» النووية عام 1986: بالتضليل. مثلاً، في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2019 أخبرت بكين منظمة الصحة العالمية بأنه «لا يوجد دليل واضح» على انتقال الفيروس بين البشر. وفي اليوم التالي، أُلقي القبض على 8 أطباء من ووهان كانوا يحاولون دق ناقوس الخطر بخصوص الفيروس الجديد. ولم تتمكن حكومة الرئيس شي جين بينغ من منع تفشي الفيروس لما وراء هوبي سوى من خلال فرض قيود شديدة الصرامة على الحرية الفردية.
أما الأنظمة الاستبدادية الأخرى فقد جاء أداؤها في مواجهة الوباء أسوأ، وإن كان من الصعب تحديد مستوى السوء بالنظر إلى أن إحصاءات الوفيات الصادرة عن روسيا وإيران لا يمكن الوثوق بها.
أما الدول الفائزة حقاً فيما يخص إدارة الوباء فكانت تايوان وكوريا الجنوبية، وهما نظامان ديمقراطيان في شرق آسيا. كما أن السباق لتطوير اللقاحات فازت فيه شركات معنية بالتكنولوجيا البيولوجية من الولايات المتحدة وألمانيا. أما السباق لتوزيع اللقاحات على السكان، ففازت فيه إسرائيل والإمارات والمملكة المتحدة.
الملاحظ أننا عادة لا نميز بين الكوارث الطبيعية والأخرى من صنع الإنسان، لكن الوباء يتألف من كائن مُمرض جديد وشبكات اجتماعية يهاجمها. ولا يمكننا استيعاب حجم العدوى من خلال دراسة الفيروس فحسب؛ لأن الفيروس سيُعدي البشر فقط تبعاً لما يسمح به الأفراد والشبكات الاجتماعية، وهذا الأمر بدوره على صلة كبيرة بالجانب السياسي.
حتى الزلزال يعدّ كارثياً فقط تبعاً لحجم الانتشار الحضري على طول خط الصدع - أو الساحل، إذا ما أثار تسونامي. وتكشف الكارثة عن كثير من الخبايا في المجتمعات والدول التي تضربها، فهي لحظة حقيقة كاشفة تفضح هشاشة البعض وتكشف عن مدى صلابة البعض الآخر. ومن هذا المنظور، يمكن القول إن جميع الكوارث هي في حقيقتها من صنع الإنسان.
الحقيقة أن الكوارث بطبيعتها يصعب للغاية توقعها، علاوة على أن العالم الذي بنيناه أصبح بمرور الوقت منظومة معقدة على نحو متزايد وعرضة لمختلف أنماط السلوك العشوائي والعلاقات غير الخطية. إن كارثة مثل الوباء لا تشكل كارثة مفردة، وإنما تقود إلى أنماط أخرى من الكوارث: اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وتزداد جهود إدارة الكوارث لدينا صعوبة بالنظر إلى حقيقة أن أنظمتنا السياسية تدفع نحو الأدوار القيادية أشخاصاً يميلون على نحو خاص إلى تجاهل التحديات سالفة الذكر. يذكر أن غياب الكفاءة السياسية كان موضوع دراسة ممتازة أجراها نورمان ديكسون، لكن قليلاً من الدراسات تناول الجانب السيكولوجي لغياب الكفاءة السياسية بوصفه ظاهرة عامة. ورغم أنه من السهل علينا استحضار أسماء شخصيات سياسية افتقرت إلى الكفاءة، فإنه يمكننا التساؤل: هل بمقدورنا تحديد أنماط عامة للأداء السياسي الرديء بمجال الاستعداد للكوارث وجهود التخفيف من تداعياتها؟
في هذا الصدد هناك 5 فئات ترد إلى الذهن: - الإخفاق في التعلم من التاريخ - إخفاق الخيال - الميل إلى القتال على صعيد الحرب أو الأزمة الأخيرة - التقليل من خطورة التهديد - الإرجاء أو انتظار الوصول إلى يقين لن يأتي أبداً.
ويرجع جزء من هذه المشكلة إلى الحوافز، ذلك أن القادة نادراً ما ينالون مكافآت على ما فعلوه لمنع وقوع كوارث. الحقيقة أن عدم وقوع كارثة نادراً ما يكون سبباً للاحتفال والشعور بالامتنان. علاوة على ذلك، فإنه كثيراً ما يلقَى باللوم عليهم عن الألم الذي تسببه الإجراءات الوقائية العلاجية التي يوصون بها. ومع ذلك؛ فإنه ليس جميع إخفاقات جهود إدارة الكارثة تشكل إخفاقات على صعيد القيادة؛ وإنما غالباً ما يأتي الفشل الحقيقي من مراتب أقل بكثير في الهيكل المؤسسي الهرمي. في الواقع؛ نجد أنه في حالات الكوارث، يمكن أن يصبح سلوك الأفراد العاديين أهم من القرارات التي يتخذها القادة أو تصدرها الحكومات.
والملاحظ أنه خلال السنوات الأخيرة سمحنا لأحد المخاطر - التغييرات المناخية - بتشتيت انتباهنا عن تهديدات أخرى. وفي يناير (كانون الثاني) 2020، وفي وقت كان فيه الوباء قد انطلق بالفعل، تركزت المناقشات الدائرة داخل «المنتدى الاقتصادي العالمي» بصورة شبه كاملة حول قضايا المسؤولية البيئية والعدالة الاجتماعية والحكم. ورغم أن الأخطار الناشئة عن ارتفاع درجات الحرارة العالمية حقيقية وقد تكون كارثية، فإن هذا لا ينبغي، بأي حال، أن يجعل التغييرات المناخية التهديد الوحيد الذي نستعد له. ومن شأن الاعتراف بتنوع الأخطار التي تواجهنا تشجيعنا على طرح استجابة أكثر مرونة للكارثة حال وقوعها.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»