عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الطبقة العاملة ترفض الاشتراكية

أكبر اختبار للرأي العام في بريطانيا منذ انتخابات عام 2019 كان انتخابات المجالس البلدية (خارج العاصمة) في إنجلترا، وانتخابات العمد في لندن والمدن الكبرى (العمدة مثل المحافظ بميزانية تفوق بلداناً مستقلة)، وانتخابات برلمانات إمارة ويلز، واسكوتلندا (لاختيار حكوماتها)، ومفوضيات البوليس (البوليس في 48 قوة مختلفة كل منها لها حكمدارية مستقلة تختارها وتمولها مفوضية منتخبة محلياً باستثناء المدن الكبرى فتتبع إدارة العمدة).
الاختبار الأهم كان الانتخابات الفرعية في دائرة هارتلبول الصناعية في شمال شرقي إنجلترا لشغل مقعد شاغر لمجلس العموم في وستمنستر.
أهمية الانتخابات الفرعية أنها بارومتر لأداء الحكومة على المستوى القومي؛ فبينما يكون التصويت في الانتخابات البلدية على قضايا محلية خالصة، فإن حسابات انتخاب نائب لمجلس العموم تتراوح ما بين كنس الشوارع المحلية إلى الدفاع وضريبة الدخل.
وصحافياً نقول إذا عضَّ الكلب ولداً فليس بخبر، ولذا ففوز الحزب الحاكم في منتصف دورة برلمانية في انتخابات فرعية يكون خبراً كعض الولد للكلب.
تقليداً تخسر الحكومة الانتخابات الفرعية للمعارضة، لكن المعارضة العمالية خسرت دائرة تحكمها منذ عام 1974 ليفوز بها المحافظون (الذين تصورهم صناعة الصحافة وشبكات التلفزيون على أنهم الأثرياء مصاصو دماء الطبقة العاملة) وهم في الحكم لعشر سنوات.
الطبقة العاملة في منطقة كانت قديماً لصناعة السفن ومناجم الفحم وجهت لطمة قاسية للحزب الذي «يمثلها»، ليس فقط بفوز المرشحة المحافظة، جيل مورتيمر، بـ52 في المائة من الأصوات (15 ألفاً و529 صوتاً من مجموع 29 ألفاً و933 صوتاً)، بل لضرورة إعادة فرز التركيبة الطبقية الاجتماعية في أعرق الديمقراطيات. مرشح العمال نال 28.7 في المائة فقط من الأصوات (8 آلاف و589 بخسارة تفوق سبعة آلاف صوت من نصيبه في 2019).
رفض الطبقة العاملة للاشتراكية ليس بجديد؛ حقيقة اكتشفناها قبل نصف قرن. فالآيديولوجيات الاشتراكية من اختراع وإدارة أبناء الطبقات الميسورة والمثقفين الذين لم تتسخ ملابسهم وأيديهم يوماً في شحن البضائع أو في المناجم، بينما العامل الحقيقي يعرف من هم المستثمرون الذين يشيدون المصانع ويخلقون الوظائف، ورأى التأميمات الاشتراكية لأحواض بناء السفن، والمصانع، والمناجم، وأدت إدارة الدولة في النهاية إلى إغلاقها.
الجديد هو الدروس المستخلصة من دائرة هارتلبول، بينما لا تزال نتائج انتخابات البلديات لم تكتمل لبطء العد بسبب الوقاية الصحية، وإن كانت تشير إلى تراجع العمال في المناطق الصناعية وتقدمهم في انتخابات العمد في مناطق مثل لندن.
الأسبوع الماضي تساءلنا: هل الصحافة والشبكات التي تسيطر عليها طبقة المثقفين الليبرالية اليسارية في وادٍ والناخب في وادٍ آخر؟ وهل جاء الدور على بوريس جونسون بعد نجاح هذه الشبكات (والمؤسسة الليبرالية العالمية) في الإطاحة بدونالد ترمب؟
ناخبو هارتلبول أجابوا عن السؤال. فلأسبوعين تزامنت الحملة الصحافية التلفزيونية للاغتيال المعنوي والسياسي لجونسون مع الحملة الانتخابية، لكنها فشلت في إقناع الناخب الذي فقد الثقة بالمؤسسات الصحافية التقليدية كـ«بي بي سي» أو «شبكة سكاي» مثلاً لعدم دقة نقلها صورة الواقع.
سبق وكررنا أن وضع وجبة العشاء أمام أطفالها أهم عند ربة البيت من الهبوط على المريخ، وأن دفع إيجار المسكن وشراء ملابس وكتب الدراسة للأولاد أهم عند رب الأسرة من الجهة التي دفعت ثمن ديكور مسكن رئيس الوزراء.
وكان ديكور مسكن جونسون هو السؤال الذي شغل بال رئيسة القسم السياسي في «بي بي سي»، الأسبوع الماضي، في المؤتمر الصحافي في 10 داوننغ ستريت عن تطورات مكافحة وباء «كوفيد - 19» بحضور نائب حكيمباشي الصحة العامة في البلاد؛ فما كان من وزير الصحة، ماثيو هانكوك، إلا أن ذكرها، بأدب جام، أن محاصرة الوباء وتأمين سلامة أسرهم هي أهم ما يشغل بال متفرجي ومستمعي هيئة الإذاعة القومية، خصوصاً أن هناك لجاناً تحقق في مسألة الديكور.
الرسالة الأخرى أن رفض الطبقة العاملة تجاوز الاشتراكية والثقة بالمؤسسة الصحافية الليبرالية إلى تجاهلها التام (وهو أسوأ من الرفض) لأجندة هذه المؤسسة وغسيل المخ الجماعي الذي تمارسه على الشعب.
فالتيارات الجديدة المعروفة بــ«الووك» (woke)، تجاهلها الناخب تماماً، فمرشحو هذه التيارات مجتمعون حصدوا أقل من 700 صوت (من 30 ألفاً) في هارتلبول. مرشحة «الخضر» البيئية نصيبها 358 صوتاً، «الفمينيست» (مرشحة الحركة النسوية) 140 صوتاً، ومرشح الديمقراطيين الاجتماعيين (المجموعة المنشقة من العمال والمحافظين للبقاء في الاتحاد الأوروبي) 108 أصوات. (كلهم أقل من نصيب مرشحة التقاليد الأسرية؛ وحظ «الخضر»، و«الووك» (والعمال) ليس بأفضل في نتائج البلديات المحلية التي ظهرت حتى ساعة كتابة هذه السطور.
الخطأ الأكثر فداحة الذي ارتكبه حزب العمال معتمداً على تشويه صناعة الرأي العام لصورة المحافظين (أملاً في تكرار نتائج الانتخابات الأميركية مع جو بايدن وترمب) كان اختيار مرشح يجاهر بأن «بريكست» كان خطأ تاريخياً، في دائرة هارتلبول التي كانت أكثر دوائر بريطانيا تصويتاً للخروج من الاتحاد الأوروبي، أي أن زعامة الحزب تبين احتقارها للناخب الذي يرتدي الأفرول المتسخ بشحم الآلة، وتوجه له رسالة بأنه غير ناضج أخطأ الحسابات، وعليه أن يسمع كلام الأفندية المتعلمين المثقفين في لندن لأنهم أكثر دراية بمصلحته.
زعامة العمال أغلبيتها من طبقة الأفندية والهوانم بالملابس الأنيقة، وكلهم في مهن الطبقات الوسطى من الشرائح المتميزة مادياً واقتصادياً، التي صوتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي والآيديولوجيات التي لم تحصل على 700 صوت؛ لكنهم على مستوى البلاد يمثلون حوالي 48 في المائة من الناخبين (وإذا أخرجت منهم اسكوتلندا، فإنهم يصبحون 42 في المائة). المعضلة التي تواجه الزعيم العمالي، السير كيير ستارمر، أنه لا يستطيع التوفيق بين التيارين في كتلة واحدة تصوت للعمال في الانتخابات المقبلة (موعدها 2024).
السؤال: هل يعيد حزب العمال صياغة نفسه كتيار ديمقراطي ليبرالي اجتماعي مستهدفاً الشرائح الجديدة من الناخبين من صغار السن وشرائح الطبقة المثقفة في العاصمة لندن ومناطق مشابهة، والاقتناع بعجزهم عن الحصول على أغلبية برلمانية، آملين في برلمان معلق في انتخابات 2030 ليدخلوا في ائتلاف مع الديمقراطيين الأحرار والقوميين من ويلز واسكوتلندا، والخضر - بمساعدة صناعة الرأي العام التي تكون تمكنت من استكمال غسل دماغ الناخب حول التسخين الحراري؟
أم هل يسبقهم جونسون (خصوصاً بنجاح سياسته في مكافحة وباء «كورونا» وقرب انفتاح الاقتصاد) بانتخابات خاطفة في الخريف أو مطلع 2022، وتكون ضربة قاصمة للعمال والاشتراكيين تعجزهم لعقود مقبلة؟