مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

في صحة المرحوم

صدق من قال: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه/ لا يذهب العرف بين الله والناس.
وإليكم هذه الحادثة: دخل رجل كبير السن وزوجته وكانا يرتديان ملابس متواضعة جداً إلى سكرتيرة مكتب رئيس جامعة هارفارد الأميركية الشهيرة لمقابلة رئيسها، ولم يكونا قد حصلا على موعد مسبق، فقالت السكرتيرة للزوجين: الرئيس مشغول جداً ولن يستطيع مقابلتكما قريباً.
ولكن سرعان ما جاءها رد السيدة، حيث قالت بثقة: عموماً سوف ننتظره، وظل الزوجان ينتظران لساعات طويلة أهملتهما خلالها السكرتيرة تماماً على أمل أن يفقدا الأمل وينصرفا.
ولكن مع إصرارهما قابلهما رئيس الجامعة دون أن يعطيهما الاهتمام، فقالت السيدة: ابننا كان يدرس هنا في الجامعة لكنه توفي في حادث السنة الماضية وجئنا لنخلد ذكراه في الجامعة، فنظر لملابسهما وشكلهما المتواضع، وقال لهما: نحن لا نضع تماثيل في الجامعة، فردّت عليه بنفس الهدوء: حضرتك فهمتنا خطأ، نحن نريد أن نبني مبنى في جامعة هارفارد يكون باسم ابننا، فرد عليهما بسخرية واضحة وهو ينظر لملابسهما: إن ذلك سوف يكلف أكثر من مائة مليون دولار.
ساد الصمت فترة وجيزة ظن خلالها الرئيس أن بإمكانه الآن أن يتخلص من الزوجين، وهنا استدارت السيدة وقالت لزوجها سيد ستانفورد: ما دامت هذه هي تكلفة إنشاء جامعة كاملة، فلماذا لا ننشئ جامعة جديدة تحمل اسم ابننا؟!، فهز الزوج رأسه موافقاً.
غادر الزوجان وسط الابتسامات الساخرة من الرئيس، وسافرا إلى كاليفورنيا حيث أسسا جامعة ستانفورد العريقة التي تعد من أفضل الجامعات في أميركا.
من المهم دائماً أن نسمع، وإذا سمعنا أن نصغي ونتفهم، فمن المهم ألا نحكم على الناس من مظهرهم وملابسهم ولكناتهم وطريقة كلامهم، تماماً مثلما من المهم ألا نقرأ كتاباً أبداً من عنوانه مهما غلا ثمنه وزخرفة غلافه.
وإليكم نموذجاً آخر: فقد ترك الأميركي جاك ماكدونالد - وهو غير ماكدونالد صاحب مطاعم (الهامبورغر) - بعد وفاته عن عمر يناهز الـ98 عاماً، ثروة تقدر بـ187 مليون دولار، والتي تبرع بها إلى إحدى الجامعات الأميركية، وجمعيتين خيريتين، بعد حياة عاشها بتواضع شديد.
وأحلى ما في الموضوع أن ختام حياته كان مسكاً، فبناء على طلبه لم يعقد له حفل تأبين، إذ فضل في وصيته بالتبرع بها لشحاذي الشوارع في نيويورك، الذين عندما وزعوها عليهم كان بمثابة يوم عيد، وأغلبهم اشتروا بها مشروبات روحية، وتعاطوها وهم يرقصون (في صحة المرحوم)، وأزعجوا السكان النائمين.