لا يريد فيروس العنف أن يغادر الشرق الأوسط مثله مثل فيروس «كوفيد - 19». يتوقع بعض الخبراء أنه بالإضافة إلى جميع النزاعات المحلية المستمرة في المنطقة وحفاظ المجموعات الإرهابية على إمكاناتها، قد تندلع هنا حرب حقيقية واسعة النطاق. روسيا ليست مهتمة بمثل هذا التطور للأحداث، لذلك فهي تبني سياستها الإقليمية على ضرورة حل المشكلات من جميع الدول على أساس عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام السيادة وسلامة الأراضي، وعن طريق الحوار السياسي، والتعاون البنّاء في مواجهة التهديدات المشتركة، بما في ذلك جائحة «كورونا» والإرهاب الدولي. هذا هو السبب الرئيسي الذي جعل موسكو وعلى وجه الخصوص، تطرح مفهوم الأمن الجماعي في منطقة الخليج، والذي يمكن لجميع دول المنطقة المشاركة في تنفيذه. موسكو قلقة من تطور الوضع حول إيران، التي تتعاون معها كما مع تركيا أيضاً بشكل بنّاء في مسألة التسوية السورية، بيد أن ذلك لا يعني تطابقاً تاماً في المواقف بين هذه الدول الثلاث أو كما تسمى «الدول الضامنة».
هذا ما أكدته المحادثة التي تم تسريبها مؤخراً بين وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف وخبير اقتصادي إيراني، حيث انتقد الوزير فيها روسيا لسعيها المزعوم لمنع تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن برنامج إيران النووي، بزعم زج الإيرانيين في عمليات في سوريا وعرقلة محاولات تحسين علاقات طهران مع الغرب. اتهم أنصارُ حكومة روحاني بتسريب نص المحادثة المحافظين الراديكاليين المهتمين بتعطيل محادثات فيينا بشأن احتمال عودة الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة ورفع العقوبات الغربية مقابل تنازلات من جهة إيران، فضلاً عن سعيهم لتشويه سمعة ظريف في عيون الإيرانيين. أما المحافظون المعتدلون فقد اتهموا «عملاء إسرائيليين» وممثلين عن منظمة «مجاهدين خلق» الإيرانية (منظمة «مجاهدي الشعب الإيراني») ومقرها أوروبا، بتنظيم التسريب. بطريقة أو بأخرى، هذه الحملة برمّتها مرتبطة بتفاقم الصراع السياسي الداخلي في إيران عشية الانتخابات الرئاسية.
ردة فعل السياسيين والخبراء الروس، الذين اعتادوا على بعض المنعطفات غير المتوقعة في الخطاب السياسي لشركائهم في الشرق الأوسط، على أخبار محادثة ظريف جاءت هادئة. في الوقت نفسه، يحظى كل ما يتعلق بإيران باهتمام كبير داخل مجتمع الخبراء الروس، نظراً إلى التوتر في علاقاتها مع عدد من دول المنطقة وضغط العقوبات الشديد على طهران من الخارج، مما يؤثر على المصالح الروسية. يشير العسكريون الإسرائيليون إلى أن الإيرانيين تمكنوا، ورغم العقوبات، من تحقيق قفزة نوعية في تطوير الصناعة العسكرية الوطنية، ونتيجة لذلك يبدو أن طهران قادرة الآن على مد الجماعات العاملة خارج البلاد تحت رعايتها بصواريخ عالية الدقة وطائرات من دون طيار. يُزعم، على سبيل المثال، أن «حزب الله» لديه الآن عشرات الصواريخ الجديدة المتميزة بدقة عالية وقوة تدميرية كبيرة وقادرة على تجاوز أنظمة الدفاع الإسرائيلية.
كما أن إيران أجرت اختباراً في فبراير (شباط) لأول صاروخ باليستي «ذو الجناح» يعمل بالوقود الصلب بوزن إقلاع يصل إلى 52 طناً، ويمكن إطلاقه من منصات متنقلة. وحسب خبراء إسرائيليين، فهو قادر على إيصال حمولة تصل إلى 500 كيلوغرام إلى مسافة تزيد على 4000 كلم. يبدو أن بإمكان الإيرانيين استخدام هذا كمادة للمساومة في المفاوضات المقبلة مع الأميركيين بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة، حيث يمكن لطهران أن تتجه إلى إلغاء انتهاكاتها (على وجه الخصوص، لقد حددوا بأنفسهم في السابق نطاقاً لصواريخهم في 2000 كيلومتر) والعودة إلى القيود مقابل تنازلات من ناحية الولايات المتحدة. ومن المقرر أيضاً إنشاء صاروخ باليستي بثلاث مراحل يعمل بالوقود الصلب أقوى من صاروخ «ذو الجناح» بوزن إقلاع 160 طناً، قادر على وضع 700 كلم من الحمولة على المدار حول الأرض على ارتفاع 1000 كيلومتر. تطوير صناعة الأسلحة الإيرانية ومساعدة «حزب الله» كانا في قلب مفاوضات الوفد الإسرائيلي المكون من الرئيس ريفلين، ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي كوخافي، خلال جولتهما التي زارا فيها ألمانيا والنمسا وفرنسا. ويقال إن كوخافي، على وجه الخصوص، نقل عبر الفرنسيين إلى بيروت رسالة مفادها أنه في حال اندلاع حرب جديدة في لبنان، لن تتمكن إسرائيل من تركيز الضربات ضد أهداف «حزب الله» من دون الإضرار بالبنية التحتية المدنية للبلاد.
لكن هل يعني هذا أن إسرائيل قد خططت بالفعل لبدء حرب وقائية ضد «حزب الله» في المستقبل القريب؟ يعتقد بعض كبار أعضاء النخبة الإسرائيلية أن على الحكومة وضع خطوط حمراء واضحة أمام «حزب الله» فيما يتعلق بتحديد عدد القذائف عالية الدقة التي يمتلكها الحزب بـ1000 أو حتى 500 قذيفة. ومع ذلك، يجب على إسرائيل أن تأخذ في الاعتبار أنه حتى لو تم تجاوز هذه العتبة واضطرت إسرائيل لتوجيه ضربة استباقية، فمن المؤكد أنها ستؤدي إلى حرب دموية واسعة النطاق وخسائر غير مقبولة للإسرائيليين. لذلك من الأفضل التركيز على عملية عسكرية محدودة في منطقة الحدود الشمالية. لكن هل سيتم في هذه الحالة تجنب حرب كبرى؟
من الصعب القول إلى أي مدى تتوافق مع الواقع تقييمات الخبراء في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط»، الذي يبني استطلاعه على اليمين الإسرائيلي، حيث غالباً ما يفاقم الوضع حول طهران. في الوقت نفسه، يدرس الخبراء الروس الذين هم على اتصال مع نظرائهم الإيرانيين هذه التقييمات بعناية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالوضع في سوريا. على وجه الخصوص، يأخذون في الاعتبار البيانات من استطلاع أبريل (نيسان) لـ«معهد واشنطن» والذي يزعم أن إيران تزيد من نفوذها بين القبائل في شمال شرقي سوريا، باستخدام «المقاربة الشاملة». يُزعم أن طهران تسعى، بالإضافة إلى «اللواء» الذي ترعاه وتموّله والمكوّن بأغلبيته من أبناء قبيلة البقارة (البكارة)، إلى تحسين العلاقات مع القبائل المحلية، لا سيما في مناطق محافظتي الحسكة والرقة، التي كانت في الماضي القريب تحت سيطرة «داعش» ولكنها بعد ذلك أصبحت تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد). في الوقت نفسه، تتركز الميليشيات القبلية المعدّة للقتال في مناطق سيطرة دمشق، والتي بدورها تحشد القوات بهدف تحرير الأراضي من «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في حال انسحاب القوات الأميركية.
لكن حسب تصريحات المسؤولين الأميركيين، فإن واشنطن لا تنوي سحب قواتها من هناك والتنازل عن السيطرة على حقول النفط والغاز، وفقاً لما يؤكدون، قبل إجراء تغيرات سياسية في سوريا. موسكو، من جهتها، باتت تدلي بتصريحات أكثر حدة حول هذا الشأن. حيث قال لافروف، متحدثاً في مؤتمر صحافي حول نتائج أنشطة الدبلوماسية الروسية في عام 2020، إن الولايات المتحدة، التي تمنع الجميع من إرسال حتى السلع الإنسانية إلى سوريا، «هي نفسها احتلت مناطق واسعة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، واستغلت من دون رحمة، النفط السوري والثروة الوطنية السورية. يقومون بسرقتها وبيعها ويدعمون أتباعهم بالعائدات منها، بمن في ذلك الانفصاليون الأكراد، لثنيهم عن الحوار مع دمشق ولتشجيع النزعة الانفصالية عندهم».
على عكس هذا النهج، فإن موسكو تتبع مسار المصالحة بين الأكراد ودمشق، وتعزز الحوار بوصفه الوسيلة الوحيدة للتغلب على التناقضات القائمة بينهما. فكما هو معروف، عندما اندلعت اشتباكات ليلة 21 أبريل في مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا بين «قوات الدفاع الوطني» الموالية لدمشق وفصائل قوات الأمن الداخلي الكردية «الأسايش» التابعة لقوات سوريا الديمقراطية، تدخلت الشرطة العسكرية التابعة للقوات المسلحة الروسية وتمكنت من إخماد نار الأزمة.
يشير خبراء غربيون وإسرائيليون في الحديث عن دور الإيرانيين في هذا الجزء من سوريا، إلى حقيقة أنه في الآونة الأخيرة قام عضو مجلس الشعب السوري في محافظة الحسكة، شيخ قبيلة طيء محمد الفارس الطائي وبمساعدة الإيرانيين، بتشكيل ميليشيات «المغاوير» التابعة لـ«قوات الدفاع الوطني». أما في الرقة فتنشط ميليشيات أخرى، ترتكز على دعم الإيرانيين، بقيادة تركي البوحمد قوامها 800 مقاتل من الذين شاركوا كما «المغاوير» أيضاً في المعارك ضد «داعش».
بيد أنه ليس هناك ما يثير الدهشة في حقيقة أن الإيرانيين يسعون إلى تطوير العلاقات مع القبائل العربية، حيث إن تعزيز نفوذهم في شرق سوريا هي وسيلة أولاً: لدعم القوات الموالية للأسد، وثانياً: لتوفير الوصول لمناطق لبنان والعراق الصديقة لهم. من هذا المنطلق، ينظر خبراء «معهد واشنطن» إلى دعم طهران لاثنتي عشرة منظمة خيرية تعمل على إعادة بناء المدارس والمستشفيات وتوزيع المساعدات الإنسانية والطبية الإيرانية على سكان دير الزور، بينما في الوقت نفسه لا تقوم بمثل هذه الأنشطة في الحسكة والرقة حيث تعمل قوات سوريا الديمقراطية (قسد). لكن يبقى السؤال: لماذا لا تقدم طهران مثل هذه المساعدة لمن حُرموا منها بسبب العقوبات؟ ألا يجب أن نحاول معاً العمل لتحسين حياة المدنيين المحليين؟
أخيراً نقول، إنه ربما تكون المنطقة قادرة على اجتثاث كلا الفيروسين: فيروس كوفيد، وفيروس العنف فيها.
TT
فيروسات الشرق الأوسط
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة