سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

قميص الأرمن!

رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على مقتل عثمان بن عفان، فإن قميصه الشهير لا يزال يسعفنا في كل موقف مشابه لمشهد رفع القميص في بدايات القرن الهجري الأول.
كان الأمويون بزعامة معاوية بن أبي سفيان قد رأوا أنفسهم أولى بالخلافة بعد عثمان، وكانوا يبحثون عن أداة نافذة في صراع الحكم، ولم يجدوا أفضل من قميص عثمان أداة فاعلة في حسم المعركة وكسبها بسهولة!
وكان أن رفعوا قميصه يطلبون الثأر، وقيل في مواضع مختلفة من الروايات التي تعرضت للحدث في كتب التاريخ، إنهم أخذوا القميص بالفعل من المدينة المنورة حيث قُتل عثمان، إلى دمشق حيث قامت الدولة الأموية واستمرت مائة سنة، وهناك راحوا يرفعونه إلى أن انتزعوا الخلافة بعد جولات وجولات من المعارك.
كان القميص واجهة مرفوعة أمام الناس، وكان مجرد لافتة عريضة تلمع في عيون المسلمين الذين تألموا لمقتل عثمان بالطريقة التي جرت ونعرفها جميعاً، ولم يكن القميص مقصوداً في حد ذاته، ولا كان الثأر بالنسبة للذين خرجوا يطلبونه هو الهدف!
كانت السلطة هي الغرض، وكانت الخلافة هي الجائزة التي يراد الوصول إليها في الحقيقة، ولم يكن القميص سوى وسيلة لدغدغة مشاعر الكثيرين من المسلمين.
ومن يومها صار قميص عثمان مثلاً في كل موقف مماثل، وأصبح حكاية مروية نلجأ إليها في كل مرة نصادف فيها ما يستدعي الحكاية إلى الأذهان!
ولن تجد أفضل من تلك الحكاية، وأنت تتابع البيان الذي أصدرته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في الرابع والعشرين من هذا الشهر، فاعترفت فيه بالمذابح التي جرت في حق الأرمن بدايات القرن الماضي باعتبارها عمليات إبادة جماعية، وأدانت في بيانها ما وقع في ذلك الزمان البعيد، فأودى بحياة ما يقرب من مليون ونصف المليون من الشعب الأرمني!
قد يقال في مقام تبرير هذا الاعتراف الأميركي المفاجئ، إن بايدن تعهد في أثناء حملته الانتخابية بالاعتراف بالمذابح، وإن إدارته وهي تعلن بيانها كانت تلتزم أمام ناخبيها وتنفذ ما وعدتهم به أيام الحملة. وهذا صحيح في مجمله ولكن صحته تظل صحة نسبية، لأنها لا تصلح لتقديم مبرر مكتمل ومقنع في وقت واحد، فما أكثر الوعود التي قطعها المرشحون الأميركيون على أنفسهم في سباقات الرئاسة، وما أكثر ما أخلفوها بعد الفوز في السباق بغير أن (يرمش لهم جفن)!
والغريب أن البيان يستدرك سريعاً ويقول في سطوره المنشورة، إن الهدف ليس لوم تركيا على ما وقع من مذابح في 1915، لأن المذابح جرت على أيدي الدولة العثمانية التي انتهت واختفت، ولأن تركيا حتى لو كانت هي وريثة تلك الدولة في التطور الطبيعي، فإن ذلك لا يعني أن الاعتراف يرغب في إحراج الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ولا يعني أن البيان يريد إلقاء اللوم على الحكومة في أنقرة!
فما هو الهدف إذن، إذا كان اللوم ليس هدفاً، وإذا كان الإحراج السياسي ليس هو القصد من وراء الاعتراف الذي يقدمه البيان؟
تقول الإدارة الأميركية في بيانها، إن كل ما تريده من وراء بيانها واعترافها، هو ألا يتكرر ما حدث مرة ثانية، وألا تتعرض حقوق الإنسان للانتهاك الهائل على نحو ما تعرضت له حقوق الأرمن في مواجهة العثمانيين مطلع القرن العشرين.
وهذا بدوره كلام ليس مقنعاً، ولا هو يمر على أي عقل سليم، لأنه لم يحدث من قبل أن كانت الإدانات من جانب أي طرف سبباً في وقف ما كان يدان في أي أرض، ولا بالطبع في منع تكراره للمرة الثانية أو حتى للمرة العاشرة. وإذا شئت مثالاً في وضوح الشمس فأمامك القضية في فلسطين، التي تكفي بيانات الإدانة بحق الانتهاكات فيها لسد عين الشمس نفسها، ومع ذلك، فالانتهاك لم يتوقف، ولم يخف، ولم يجد من يمنعه، ولا يزال يتكرر.
وليست القضية في فلسطين سوى مثال صارخ، ولو فتشنا حولنا لوقعنا على الكثير من الأمثلة في أنحاء العالم، بل وفي داخل الولايات المتحدة نفسها. وهل هناك ما هو أوقع من حادث مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد قبل سنة من الآن مختنقاً تحت قدم شرطي أبيض؟!... هل هناك ما هو أوقع منه دليلاً على أن حقوق السود في أميركا لا تزال تتعرض لانتهاكات تصطدم بكل الأعراف الإنسانية، وعلى أن بيانات الإدانة لم تمنع تكرار ما يشبه واقعة فلويد في أميركا ذاتها؟!
بالطبع، فإن حكومة إردوغان حولت البيان كما كان متوقعاً إلى حائط مبكى، وراحت تتحدث عنه باعتباره بياناً ذا معنى سياسي، قبل أن يكون بياناً حقوقياً يتعرض لقضية حقوقية طال حولها الكلام على مدى ما يزيد على قرن من الزمان.
ولكن السؤال عما يراد من وراء إعادة فتح ملف الأرمن في هذا التوقيت، وبهذه الطريقة، يظل يبحث عن إجابته في جيب الحكومة الأميركية، أكثر مما يبحث عنها في أي جيب آخر؟
هل القصة سياسية أم أنها حقوقية، أم هي خليط من الاثنين معاً؟... الحقيقة أن النظر إليها من زواياها المتعددة يقول إنها سياسية فيما يخص تركيا، وحقوقية فيما يتصل بالمعركة الطويلة الأمد بين الولايات المتحدة وبين الحكومة في الصين!
هي سياسية في الحالة الأولى أكثر منها حقوقية، والدليل أن إدارة الرئيس بايدن وقّعت عقوبات قبلها بساعات على أنقرة في ملف الطائرات إف 35، لأن تركيا لا تزال تتمسك بمنظومة الصواريخ الروسية إس 400، ولا تفكر في التخلي عنها رغم الضغوط الكبيرة عليها في الملف من أيام ترمب!
وهي حقوقية مع الصين أكثر منها سياسية، لأن حقوق الإنسان هي الشعار الذي ترفعه الإدارة الأميركية الحالية في معركتها التي ستطول مع بكين، ولأن هذه الحقوق هي السلاح الذي تشهره إدارة الرئيس بايدن في وجه حكومة الرئيس الصيني شي جينبينغ!
وليست مذابح الأرمن سوى قميص اهتدت إليه واشنطن في غمرة صراعها المعلن مع بكين، وسرعان ما ارتدته على الفور، ومن خلاله راحت تعلن البيان فتعترف فيه وتدين، أقول من خلال القميص وليس طبعاً من أجله، لأنه ما أبعد المسافة بين المعنيين في الحالتين!