عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

فيينا... نفس الأخطاء ونفس النتائج

المتابع لمحادثات فيينا بين دول الاتفاق النووي السابق والنظام الإيراني يخطر بباله أن التاريخ يعيد نفسه، ومن يرتكب نفس الأخطاء ويتوقع نتائج مختلفة إنما يخدع نفسه، والتاريخ لا يعيد نفسه أبداً، ولكنه يخادع الخاضعين من تستولي عليهم فكرة «القابلية للخديعة».
الاتفاق النووي السابق كان فاشلاً فشلاً ذريعاً ولذلك الفشل مسببات منطقية وواقعية، وأياً كانت نتائج محادثات فيينا فهي ستعيد تجريب المجرب وتكرير الخطأ مرتين، كانت واحدةً من أهم أسباب فشل الاتفاق السابق أنه استبعد دول الخليج العربي تماماً في المفاوضات والتوقيع والإعلان وهو ما يتكرر اليوم في فيينا والنتيجة لن تكون مختلفة بالتأكيد.
طالب مجلس التعاون الخليجي بالمشاركة في محادثات فيينا، وأرسل أمينه العام رسائل صريحة لوزراء دول الخمسة زائد واحد معبراً عن أن دول الخليج العربي هي الدول الداعمة للاستقرار في المنطقة والعالم وهي المعنية بشكل رئيس بأي مفاوضات مع النظام الإيراني واستبعادها يؤكد أن هذا الاتفاق الميت الذي يراد إعادة إحيائه سينتهي إلى الموت مجدداً.
من يراقب المحادثات وتفاصيلها في الأخبار لا يملك إلا أن يقارن بين ما كان قبل بضعة أشهرٍ حينما كان النظام الإيراني خائفاً ومتضرراً من العقوبات الأميركية القاسية وبين ما يجري اليوم، فالدلال الغربي لإيران وصل مستوياتٍ مكشوفةٍ والنظام الإيراني يستغل ذلك بشيء من التبجح، فهل يصدق أحد أن النظام الإيراني كان يستطيع التصريح ببلوغ تخصيب اليورانيوم مستويات الستين في المئة قبل أشهرٍ فقط؟ الواقع لا أحد، ولكن هذا التساؤل يفتح باب المقارنة ويضع النقاط على الحروف لمعرفة حجم الاندفاع الغربي نحو أي اتفاقٍ بأي شكلٍ مع إيران.
واحدة من خطايا الاتفاق النووي السابق أنه لم يتطرق بشكل واضحٍ لأمرين رئيسين لدى دول المنطقة: الأول، لم يتطرق لطموحات الهيمنة وبسط النفوذ لدى النظام الإيراني وتدخلاته السافرة في الشؤون الداخلية للدول العربية بالاحتلال المباشر وشبه المباشر في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأن عليها الخضوع للقوانين الدولية في هذا السياق، ولذلك زادت شرور إيران بعد ذلك الاتفاق الفاشل حتى وصلت إدارة أميركية كانت أكثر حزماً مع إيران.
الثاني، لم يتطرق الاتفاق النووي السابق لصواريخ إيران الباليستية التي كانت تهدد دول الخليج العربي، وكان ذلك سبباً لفشل ذلك الاتفاق، وإيران اليوم تستهدف نفط السعودية وإمدادات الطاقة العالمية وتستهدف المدنيين والأعيان المدينة جهاراً نهاراً، فلم يعد الأمر مجرد تخوفات من إطلاق عنان إيران لتعيث في المنطقة فساداً، بل أصبح واقعاً فعلياً يشاهده العالم بأسره.
عودة الانسحابية والانعزالية لتقود فكر وقرارات أقوى امبراطورية في العالم عرفها التاريخ مؤشرٌ على تراجع التأثير برغبة سياسية واعية وباختيارٍ لا باضطرارٍ، والأخبار تتحدث عن انسحابٍ أميركي وشيكٍ من أفغانستان وانسحابٍ بشكل مختلفٍ من العراق والخليج وغيرهما من المناطق حول العالم، وهذا الانسحاب والانعزال سيكون له تبعاتٌ لدى دول العالم عبر اتجاهين: الدول العظمى ستسعى لبسط مزيد من النفوذ وفرض مزيد من القوة والدول الحليفة سوف تفتش عن خياراتٍ أكثر أماناً وأكثر تحقيقاً للمصالح.
لا يستقيم منطقياً أن تنسحب من العالم وتحسب أنك يمكن أن تحافظ على مكاسبك ولا تخسر، فمنطق التاريخ متوازن، والانسحاب الذي يشكل فراغاً يجبر الآخرين على التمدد وتغطية الفراغ، والحلفاء حين يتم خذلاناهم يفتشون عن مصالح مشتركة مع من يقدمها ويتفهم أهميتها وضرورتها وتتغير موازين القوى، فالتاريخ عاقلٌ ولمساره منطق ولحراكه حكمة، وسيكون على المتضرر إعادة حساباته.
القابل للخديعة وحده يعتقد أن الدول ستصمت حين يتم غض الطرف عن أعدائها والسكوت عما يهدد استقلالها واستقرارها وحين يحسب أن ستعجز عن خوض معارك الوجود والعدم بكل ما تتطلبه من جهدٍ وألمٍ ومشقةٍ، وحينها ستنطلق سباقات تسلحٍ لن يستطيع أحدٌ إيقافها ولا التحكم بتأثيراتها لا على الدول فحسب، بل على البشرية جمعاء.
الرسائل التي تبعثها محادثات فيينا هي أنك إن كنت نظاماً سياسياً مارقاً فستقع عليك عقوباتٌ دوليةٌ فإن أصررت على ذلك المروق وزدت فيه ونشرت المزيد من الشرور فإن الدول الكبرى والمؤسسات الدولية ستتفاوض معك فإن ازددت في نفس التوجه فستقدم لك التنازلات وترفع عن العقوبات وتحظى بالدلال.
لحظات الصعود والهبوط في القوى الدولية هي لحظات اضطراب كبرى فيها رابحون وخاسرون، هكذا تحدث التاريخ وهكذا عرف وجرّب البشر، ولذلك فالعالم مقبل على مزيدٍ من النزاعات والصراعات والحروب التي قد تستمر لعقودٍ في مناطق مختلفة من العالم وتاريخ الدول والأمم والشعوب خير شاهدٍ، ففي كل ثقافة ما يبرهن على هذا.
مع ترابط العالم الوثيق وغير المسبوق في تاريخ البشرية فإن أحداً ليس بمنأى عن التأثيرات والاضطرابات الكبرى مهما ظن نفسه قوياً وبعيداً ومحصناً، ويكفي رصد ظاهرة الإرهاب في العقود الأخيرة لمعرفة أن التغافل عن حراك التاريخ يمكن أن يخلق مشكلات حقيقية لأبعد الدول وأكثرها استقراراً وقوةً.
وفي هذا السياق فسيكتشف العالم سريعاً وبمجرد رفع بعض العقوبات عن إيران أن الإرهاب لم ينته وأنه قادرٌ على العودة بأشكالٍ ومسميات متعددة ما دام الداعم موجوداً ومصراً على سلوكه واستراتيجياته وسياساته وهو يعلم أنها ستمرّ جميعاً دون عقابٍ وسيدفع الكثيرون ثمن التخاذل والانسحاب غير محسوب العواقب من العالم.
وستنتعش الأصولية في الغرب برعاية الدولة نفسها وستتسبب بمشكلات لا حصر لها للدول التي تدافع عنها وتحسب أن شرور هذه الجماعات ستقتصر على الدول العربية والدول المسلمة ولن تطال تلك الدول، وغض الطرف هنا ستكون له عواقب وخيمة في المستقبل، والتساهل مع المرض يحيله طاعوناً.
قال نيوتن: لكل فعلٍ ردة فعلٍ، وقال هيغل: التاريخ يمرّ بدوراتٍ، في منظومة واسعةٍ من الأفكار والمفاهيم في شتى أنواع العلوم تجعل التفكير المنطقي والتعامل الواقعي مع حراك التاريخ وتفاعل العالم قادراً على منح استشرافٍ مهمٍ للمستقبل وقراءة غير حالمةٍ ولا سوداوية له.
أخيراً، تقول العرب: ما حكّ جلدك مثل ظفرك، والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم يحتاج أنياباً وقوةً لفرضه وحمايته والدفاع عنه.