عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الصحافة والقلق من التطعيم

أكثر من عام منذ توصيف منظمة الصحة العالمية لـ«كوفيد - 19» بالوباء العالمي. ورغم تحذير المنظمة الدولية والأطباء للحكومات بتجنب السماح للخلافات السياسية بالتأثير على إجراءات التعامل مع الحد من انتشار فيروس كورونا المسبب للمرض، فإن كثيراً من الساسة، خصوصاً الأوروبيين، لم يتبعوا النصيحة، مما أثر على جهود محاصرة الفيروس.
الساسة يتوجهون للرأي العام - خصوصاً في البلدان الديمقراطية - ولذا فإن وسائل التواصل الصحافية والشبكات التلفزيونية ذات التأثير في الرأي العام تتحمل المسؤولية، مما يتطلب فحص معالجتها للوباء وتغطيتها لخلافات وأزمات حول التعامل مع الوسائل والإجراءات التي أشارت إليها منظمة الصحة العالمية.
الخلافات السياسية تكرر نفسها، بدأت مع الإجراءات الأولى العام الماضي التي شملت معدات الفحص، ومعدات الوقاية والأدوية - وكيف اعترضت بلدان شحناتها ومنعت تصديرها، واستخدمت بلدان أخرى ثراءها وقوتها العسكرية للاستحواذ على النصيب الأكبر منها. وهذا العام يتكرر الأمر مع لقاحات التطعيم التسعة المستخدمة حالياً (أي التي صرحت الوكالات والهيئات الطبية المسؤولة باستخدامها للإنسان - بينما تجرى الاختبارات لحوالي ثمانية أنواع أخرى من اللقاح)، حيث تعرقل الألاعيب السياسية وصولها للناس، كما يساهم التفاوت الاقتصادي والثقل السياسي في توزيع اللقاحات واستخدامها.
فمثلاً 27 من ضمن 200 بلد حول العالم الأكثر ثراءً (في مقدمتها الولايات المتحدة، والصين والهند والمملكة المتحدة وروسيا) لديها 39.5 في المائة من اللقاحات الموجودة اليوم.
وحتى منتصف نهار أول من أمس (الجمعة) بلغ عدد الذين طعموا باللقاح حول العالم 726 مليوناً (بمعدل 17 مليون جرعة يومياً باعتبار أن ثمانية من هذه الأمصال يحتاج البالغ جرعتين منها لاستكمال الوقاية).
وتحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى من حيث أرقام المطعمين باللقاح (174 مليوناً و880 ألف مواطن)، بينما تأتي الصين في المرتبة الثانية (149 مليوناً و71 ألف شخص)، تليها الهند (94 مليوناً)، فبريطانيا (38 مليوناً). لكن هذا الترتيب لا يعكس أي تفوق نجاح حقيقي فاعل ضد الفيروس، إذا أخذنا عدد السكان في الاعتبار؛ فالصين مثلاً تأتي في المرتبة السادسة عشرة بالنسبة لحماية المواطنين (جرعات اللقاح لديها تكفي 5 في المائة فقط من السكان رغم أنها مصدرة للقاح)، وأميركا في المرتبة الخامسة (33 في المائة)، إذ تحتل إسرائيل المرتبة الأولى (54.2 في المائة للمطعمين بجرعتين، و58.6 في المائة بالجرعة الأولى)، وتأتي الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الثانية (41.4 في المائة من عدد السكان)، فبريطانيا التي طعمت 47.6 في المائة (10 في المائة جرعة ثانية) - أو 60 في المائة من الكبار، فالأطفال لا يطعمون، ثم تشيلي في المرتبة الرابعة (37.4 في المائة جرعة أولى و22.3 في المائة جرعة ثانية). ولأن الفيروس الذي ظهر في الصين قبل 17 شهراً أصاب أركان الدنيا الأربع، فلا يمكن بالفعل محاصرته أو وقاية البشرية منه بشكل عملي يمكن التعايش معه إلا بتطعيم أربعة مليارات نسمة.
ولعل أكثر نماذج الخلافات السياسة الذي يدعو للأسف هو النزاع الذي افتعلته مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل مع شركة «أسترازينيكا»، ومنعت تصدير اللقاحات المصنعة في بلدان الاتحاد، والحملة الدعائية (بأسلوب الحرب الباردة من القرن الماضي) التي شنتها الوسائل الصحافية الغربية، وحتى الساسة في بريطانيا وأوروبا، على اللقاح الروسي «سبوتنيك - ف» (يعرف أيضاً بلقاح «غاميليا»)، رغم أن نسب نجاحه في الوقاية بلغت 92 في المائة مما يجعله الثاني في العالم (بعد «فايزر» الألماني و«موديرنا» الأميركي ونسبة نجاح كل منهما 95 في المائة)، ويفوق لقاحات أخرى كـ«نوفاكس» الأميركي (نسبة نجاح 89 في المائة) و«سينوفرام» الصيني (79 في المائة) و«أسترازينيكا» (70 في المائة).
واستمرت الحملة لأربعة أشهر منذ بداية استخدامه، بدعوى أنه لم تتم التجارب عليه في وقت كافٍ كأول لقاح يجري التطعيم به في العالم. المفارقة أن عدداً من البلدان الأوروبية، كالمجر والنمسا، شقت عصا الطاعة عن مفوضية الاتحاد الأوروبي، وبدأت في التعاقد مع الشركة الروسية، حتى ألمانيا التي تعد العمود الفقري للفيدرالية الأوروبية أكد وزير الصحة فيها، ينيز شباهن، أول من أمس، أن بلاده تتفاوض مع الشركة الروسية لتوفير اللقاحات. والخطوة تدعو للاطمئنان، وإن بدا أن الحاجة وليس المنطق كانت وراء الموقف البراغماتي.
وبعد شهرين من خلافات أثارتها مفوضة بروكسل مع شركة «أسترازينيكا» للأدوية، واتهامها بتفضيل بريطانيا على بلدان الاتحاد في توريد اللقاح (رغم وجود عشرات الملايين من الجرعات مخزونة لدى البلدان الأوروبية) بدأت حملة للتشكيك في اللقاح الذي اكتشف في معامل أكسفورد في بريطانيا، بتصريحات بدت للمراقبين غير مسؤولة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حول تقارير عن جلطات دم نفر قليل من الذين تلقوا اللقاح. وكانت النتيجة إحجام أعداد متزايدة من الفرنسيين عن تعاطي اللقاح مما أدى إلى زيادة العدوى وإغلاق النشاط العام في فرنسا. حالياً هناك 17 بلداً أوروبياً أوقفت استخدام لقاح «أسترازينيكا»، بينما في بريطانيا لا يزال اللقاح هو «حصان العمل»، حسب التعبير الإنجليزي، في التعامل مع مهمة شاقة أو التعامل مع مشروع ضخم. فهناك ثلاثة لقاحات تستخدم اليوم في المملكة المتحدة: «فايزر»، و«موديرنا»، و«أسترازينيكا»، والأخير طعم به أكثر من 19 مليوناً، أي أكثر من 50 في المائة من الذين طعموا.
وبينما يحجم عدد كبير من السكان في البلدان الأوروبية (ما بين 50 في المائة إلى 70 في المائة في استطلاعات الرأي) عن تعاطي لقاح «أسترازينيكا» قال أكثر من 75 في المائة من البريطانيين إنهم مطمئنون للمصل. ويعود هذا الوعي المرتفع في تقديرنا إلى دور مسؤول لعبته الصحافة البريطانية، خصوصاً الشعبية الورقية في تغطيتها لمسألة الجلطات الدموية. فمن بين 19 مليوناً طعموا باللقاح، أصيب 30 بجلطات، توفي منهم سبعة فقط. الصحافة وضعت الأرقام في إطارها المسؤول لأن واحداً من كل أربعة ماتوا في مستشفيات بريطانيا (نهاية عام 2018) كانت الجلطات الدموية سبباً في الوفاة قبل «كورونا». «الصن»، أكثر الصحف البريطانية انتشاراً وتوزيعاً، قالت على الصفحة الأولى إن نسبة الوفيات بين المطعمين 0.000095 في المائة، أي واحد في المليون. أما «الديلي تلغراف» فقد انفردت بلقاء أقارب متوفين بالجلطات وأجمعوا على أن بقية الأسرة ستتعاطى اللقاح، ونصحوا بالاستمرار لأن الذين يصابون بالجلطات كانوا سيصابون بها نتيجة الفيروس بلقاح أو لا لقاح. أهم ملاحظة أن 56 في المائة من المقالات عن التطعيم والحقائق الطبية كانت بأقلام الصحافيين المتخصصين في الشؤون العلمية والصحة، وليس بأقلام المحررين السياسيين.