زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

سوريا والمحكمة: قراءة قانونية لتطبيق العدالة!

العدالة قد تغيب وتختفي، ولكنها لا تتلاشى ولا تموت؛ فسرعان ما تظهر وتطفو على السطح، ولذا مع تزامن الذكرى العاشرة للأزمة السورية، لمسنا تحركاً دولياً جاداً لمحاسبة النظام السوري، بدليل أن دولاً أصدرت عقوبات ضد أشخاص محسوبين على الرئيس السوري بشار الأسد.
غير أن اللافت هو ذلك المقال الذي شارك فيه 18 وزير خارجية دولة أوروبية، ونُشر قبل أسبوع، ويستدعي التوقف عنده لأهمية ما جاء فيه، كقولهم إن «دولنا ملتزمة بضمان عدم إفلات مجرمي الحرب ومرتكبي التعذيب في سوريا من العقاب». وجاء أيضاً في المقال أنه «في السنوات العشر الماضية، قُتل نحو 400 ألف شخص في سوريا، وأُجبر أكثر من ستة ملايين على الفرار من البلاد هرباً من انتهاكات حقوقية لا حصر لها». وطالب الوزراء بـ«تسليط الضوء الكامل على تلك الأعمال الوحشية»، داعين إلى «السماح للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في الجرائم التي يُشتبه بارتكابها في سوريا، ومحاكمة الجناة». وفي هذا السياق، أطرح هنا مخارج قانونية لتحقيق العدالة، وفق إطار القانون الدولي، وسبق أن ذكرتها، وإن كان كل مشروع قرار ضد النظام السوري يُطرح على مجلس الأمن متضمناً إحالة جميع الجرائم ضد الإنسانية على المحكمة الجنائية الدولية لا يلبث أن يسقط؛ لكونه يصطدم عادة بالفيتو الروسي والصيني. نستحضر هنا المقترح الفرنسي الذي جاء قبل بضع سنوات تلبية لطلب المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي يحوي وثائق دامغة وآلاف الصور للاعتقالات والمجاعة وعمليات التعذيب التي يتعرض لها الشعب السوري في سجون النظام. الحقيقة لو مرر ذلك المشروع الفرنسي آنذاك (وهو محاولة ضمن عدة محاولات قدمتها فرنسا وغيرها لمحاكمة النظام السوري) وصدر قرار من مجلس الأمن، فإنه كان باستطاعة المحكمة بدء التحقيق في جرائم نظام الأسد، لأنه من غير المعقول أن يستمر ذلك الوضع المأساوي ويُترك رئيس دولة يقتل الآلاف من شعبه ولا يُعاقب على جرائمه. ولذا فالتساؤل الذي يتبادر للذهن يدور حول مدى إمكانية تقديم بشار الأسد وزمرته العسكرية للمحاكمة، وفقاً لقواعد القانون الدولي، وبالتالي تحميلهم المسؤولية الجنائية.
هناك مَن يرى أن المحكمة الجنائية الدولية التي تمت الموافقة على معاهدة تأسيسها من قبل أكثر من ستين دولة، هي المكان لإقامة الدعوى ضد الأسد، على اعتبار أن تلك الجرائم تدخل في اختصاصها الأصيل، حيث نجد أن نصوص المواد «5 و6 و7 و8» من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تنطبق على الأفعال الإجرامية التي ارتكبها بشار الأسد. كما أن الاختصاص الزماني لا يُعدّ إشكالية هنا. ومع أن جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، فإن المادة 11 حددت اختصاص المحكمة بالجرائم التي تُرتكب بعد الأول من يوليو (تموز) 2002، بمعنى أن الأفعال الإجرامية التي ارتكبها نظام الأسد تدخل ضمن الولاية القضائية للمحكمة. غير أن العائق هنا يكمن في أن الحكومة السورية لم تصادق على نظام المحكمة الأساسي، ما يعني أن المحكمة لن تقبل الدعوى.
إذن ما الحل البديل؟ هو يتمثل في تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن، وهذا ما حدث بالفعل قبل سنوات، وقد تبناه الفرنسيون حينذاك، ولو نجح التصويت وقتها، فإن مجلس الأمن كان سيحيلها إلى المحكمة الجنائية وفقاً للمادة 13 من نظام المحكمة الأساسي، ولكن كما هو معروف كانت النتيجة سلبية، على اعتبار أن الفيتو الروسي والصيني هما اللذان عرقلا إجراءات الإحالة.
حالة الفشل هذه متوقعة على أي حال لمن يعرف آلية القرار داخل مجلس الأمن، وما يدور في الدهاليز، وما يُقال في الكواليس، ولذلك فعلينا أن ننتقل إلى حل آخر، وهو آلية أخرى، أو ما يسمى القضاء العالمي، وبالإمكان تطبيقها، وهي في متناول الدول الأطراف الموقعة على اتفاقيات جنيف، التي أكدت مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية بموجب المواد المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، حيث تشكل تلك المواد القانونية، ما يُعرف بالاختصاص القضائي العالمي الذي بموجبه يحق لأي دولة موقعة على اتفاقيات جنيف ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب ومحاكمتهم، ولذا تقع المسؤولية هنا في تقديري على الدول العربية في مطالبة تلك الدول باستخدام حقها القانوني.
أما في حالة عدم حماسة تلك الدول، نظراً لما تمر به من تحولات وظروف استثنائية والمنطقة عموماً، فعلينا أن نعود، وهنا لب الموضوع، للجمعية العامة التي كانت قد أقرت مبادئ التعاون الدولي في تعقب واعتقال وتسليم الأشخاص مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بقرارها في عام 1973، وبالتالي فإنه يتم وفق هذا السيناريو إصدار قرار منها بإنشاء محكمة دولية جنائية لسوريا، على غرار المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا. هذا التوجه مدعوم بالمادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أن «للجمعية العامة أن تنشئ من الفروع الثانوية ما تراه ضرورياً للقيام بوظائفها»؛ ما يعني صدور قرار من الجمعية العامة بتشكيل محكمة جنائية لمحاكمة قادة سياسيين وعسكريين سوريين على جرائمهم، وفقاً للاختصاص القضائي العالمي.
هذا خيار قانوني مطروح ومعروف في الوقت الذي تتضاعف فيه مسؤولية المجتمع الدولي لتحقيق العدالة، في ظل عجز مجلس الأمن الدائم، ما يعني أن الكرة في ملعبه لإنشاء محكمة دولية جنائية لسوريا، وفقاً للقانون الدولي.