نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

«فتح»... من انقسامات الثورة إلى انقسامات السلطة

واجهت «فتح» خلال مسيرتها الطويلة أزمات داخلية متواصلة، كانت تعالج بتسويات وترضيات، وأحياناً يغادر مؤسسون وأصحاب اجتهادات اختلفت مع اجتهاد التيار المركزي، الذي كان يجسده ياسر عرفات ومن معه من القيادة التاريخية.
كانت الانشقاقات المحدودة أشبه بفقاقيع الماء لا ينتبه إليها في حينها ولا بعد انتهائها، ذلك أنَّ التيار المركزي لم يكن مجرد فريق مختلف معه، بل كان محمياً بعمق شعبي شكل ظاهرة قوية وفعالة حمت الحركة ووحدتها وقيادتها المتفردة للعمل الفلسطيني كله، وحولت منظمة التحرير النخبوية إلى جبهة وطنية قوامها حملة البنادق ومن يسمون حتى الآن الكفاءات المستقلة.
إذا تجاوزنا الانقسامات المحدودة قليلة التأثير في قوة الحركة ومكانتها، فلن نكون موضوعيين بما يكفي إذا تجاوزنا الانشقاق الأول الكبير الذي أنتجه فريق نافذ في حركة «فتح» يضم أعضاء من لجنتها المركزية (نمر صالح وسميح أبو كويك) وقيادات تنظيمية وعسكرية وكوادر منتشرة على كل المؤسسات بما في ذلك السفارات والاتحادات والجاليات.
كان انشقاقاً خطراً وكاد يؤدي بظاهرة الثورة الفلسطينية التي كانت خارجة لتوّها من معركة ناجحة في التصدي منفردة للجيش الإسرائيلي المتفوق من كل النواحي، وما أثار الخوف أكثر أنَّ الانشقاق الأول الواسع لم يكن فلسطينياً تماماً، إذ حظيَ بتمويل وتبنٍ من قطبين عربيين؛ الأول: الجغرافي القومي ذو الغلاف الثوري سوريا ورجلها القوي آنذاك حافظ الأسد، والثاني: الشعبوي المالي ليبيا وزعيمها معمر القذافي.
وقد شلَّ هذا الانقسام حركة «فتح» ومنظمة التحرير لفترة من الزمن، إلا أنَّها ما لبثت أن تغلَّبت عليه بفعل عاملين مؤثرين؛ الأول الانحياز الشعبي لتيارها المركزي بقيادة عرفات الذي اقترن اسمه بكل المعارك المجيدة وآخرها معركة لبنان، وعامل آخر هو إحلال الجغرافيا السياسية الأردنية والمصرية بدل الجغرافيا الثورية السورية، بحيث حسم الأردن أمر الانقسام بعقد المجلس الوطني على أرضه، ما عزل المنشقين في زوايا ضيقة ومتناثرة، غير أنَّ من ينظر لذلك الانشقاق من زاوية موضوعية لا يستطيع إنكار الجرح العميق الذي خلفه على صعيد الثورة والشعب، بل وعلى مستوى المشروع الوطني بإجماله، وبقدر ما حسم مجلس عمان الذي افتتحه الملك حسين رحمه الله، أمر انقسام منظمة التحرير، فقد حُسمت مسألة الوحدة الوطنية الشاملة في مجلس الجزائر، لتعود منظمة التحرير إلى وضعها الطبيعي إطاراً جبهوياً يضم الجميع ويتحدث باسم الشعب الفلسطيني كله.
وبعد أن تجاوزت «فتح» قطوع ذلك الانشقاق الكبير، بدت كما لو أنَّها ومعها كل قوى منظمة التحرير الموالية والمعارضة عصية على انقسام جديد، وحتى حين أخذت العمل الفلسطيني كله نحو المفاوضات مع إسرائيل والاعتراف بها وبحقها في الوجود، لم يحدث أي قدر من الانقسام، بل مجرد مواقف متباينة بين مؤيد للخطوة الإشكالية ومتحفظ عليها ومتذمر منها، إلا أنَّ الجميع اندمج فيها بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة.
ظلَّت الأمور سائرة على هذه الوتيرة، إلى أن حدث الانقسام الذي ظلت فيه «فتح» موحدة رغم خسارتها الانتخابات العامة الثانية أمام المنافس المتنامي «حماس».
كان فوز «حماس» في انتخابات أسستها «فتح» بالجملة وبالتفصيل راجعاً في جزء أساسي منه إلى الصراع الداخلي في حركة «فتح» وسلطتها، آنذاك كان عرفات يعالج الأمور بالترضيات والاحتواء مجاهداً كي لا يصل الغضب أو الاختلاف إلى حد التمرد العلني والانشقاق، كان ممسكاً بخيوط «فتح» جميعاً، ولم يفلت من يده خيط واحد، غير أنَّ موهبة عرفات في هذا الاتجاه لم تكن متوفرة لدى خليفته محمود عباس، الذي اختار الحلول الجراحية بديلاً عن الاحتوائية، والخلاصة أنَّنا الآن حيال قائمتين انتخابيتين متنافستين ومتنافرتين، إذا ما نحينا جانباً قائمة دحلان التي تعود الفتحاويون على إقصائها الرسمي من دون إنكار نفوذها التصويتي في أي انتخابات قطاعية أو عامة، وها هي «فتح» الآن تبدو على النحو التالي...
ثلاثة معسكرات ذات ثلاث تسميات وإطارات.
مؤشرات تقول إنَّ المعسكرين المنفصلين عن المعسكر المركزي يتقاربان بما يرجح احتمال تحالف مستقبلي داخل المجلس التشريعي بعد انتخابه، وهذا يجعل من «حماس» الواحدة الكتلة الأولى في عدد المقاعد، كان يمكن ألا يحدث ذلك لو أطلقت «فتح» قائمتين بمنطق توزيع الأدوار واستقطاب من لا تستقطبه القائمة الرسمية، إلا أنَّ ما حدث ابتعد كثيراً عن هذه المحاولة، وها نحن نرى حرباً كلامية اتهامية تشهيرية بين القوائم الثلاث.
«فتح» الآن منقسمة مهما حاول كثيرون ترديد عبارات إنشائية مثل: أم الولد ورقم غير قابل للقسمة ونشق قلوبنا ولا نشق «فتح».
عبارات كهذه تقال في غمار الأزمات المتوالدة والانقسامات النشطة كبديل لغوي عن الإجراءات العملية المفتقدة تماماً لمعالجتها.
السؤال الذي لم يوجد له جواب حتى الآن: هل ستعالج «فتح» انقساماتها الراهنة قبل الانتخابات أم بعدها؟
فترة ما قبل الانتخابات تبدو ضيقة للغاية، بل ومليئة بالتعقيدات جراء ردود الفعل الحادة على قائمة «فتح» الرسمية، أما ما بعد الانتخابات فلا أحد يعرف.