رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

صيغة التعددية اللبنانية في خطر

ثمة من يقول إن الأوطان لا تنتهي، ولكن ما يعيشه لبنان راهناً لا يوحي بأن أزماته العميقة ومآزقه المتعددة ستصل إلى خواتيم سعيدة في أوقات قريبة. ليست ثمة قيادة سياسية وطنية قادرة على العبور به نحو مرحلة منضبطة السقوف السياسية ومحددة الخسائر الاقتصادية والمالية. هذا أمر محسوم، ولكن ما هو أكثر خطورة غياب الاستعداد لإعادة التوازن السياسي فيه بعد أن أصبح مختلاً بشكل غير مسبوق بفعل الامتدادات الخارجية التي تصادر قراره الوطني وتتغلغل في كل مفاصله ومواقعه.
الفارق الجوهري بين أزمة لبنان الراهنة وأزماته المتلاحقة في الحقب السابقة أن الواقع الحالي عنوانه الرئيسي: جر لبنان إلى المواقع الإقليمية التي تتناقض تاريخياً مع دوره وموقعه ورسالته. صحيح أن الخلاف التاريخي والعقائدي بين اللبنانيين تمحور حول «فينيقيّة» لبنان أو عروبته، ولكن هذا الأمر حُسم في «اتفاق الطائف» الذي وُلد في لحظة تقاطع عربي - دولي كبير، وضعت حداً للحرب الأهلية الدامية التي استمرت زهاء خمسة عشر عاماً.
كما أن حقبة ما قبل «الطائف»؛ أي تلك الحقبة التي يرغب البعض من اللبنانيين في تسميتها «الفترة الذهبية» (وثمة ملاحظات جوهرية وبنيوية تجعل تلك التسمية مبالغاً فيها ولا تعكس الواقع الحقيقي آنذاك)، كانت حقبة متميزة على صعيد علاقات لبنان العربية؛ فبيروت كانت مستشفى العرب وجامعتهم ووجهة سياحتهم واصطيافهم. لم تكن ثمة مشكلة حقيقية بين الشعب اللبناني والشعوب العربية؛ لا بل على العكس، كانت الأسواق العربية مفتوحة أمام المستثمرين ورجال الأعمال اللبنانيين والموارد البشرية اللبنانية التي نجحت في قطاعات واسعة من الاقتصادات العربية الناشئة في تلك المرحلة التي شهدت بداية الفورة النفطية التي أعادت تشكيل الواقع العربي بشكل جذري وعميق.
أما على المستوى السياسي، فكان لبنان الرسمي يسعى بصورة دائمة (مع بعض الاستثناءات) للحفاظ على العلاقات الجيدة مع العالم العربي بمختلف مكوناته، ويجهد دون انقطاع لكي يجعل تلك العلاقات قائمة على التوازن دون الالتحاق بمحور ضد آخر. لا شك في أن سياسة «قوة لبنان في ضعفه» كانت مقاربة كارثية في بناء أي سياسة خارجية أو داخلية، ولكن عندما كان يجري تجاوز هذه القاعدة، كان لبنان يتمكن من جمع بعض أوراق القوة والحضور على الساحة العربية.
الآن؛ كل العالم العربي تغير، وكذلك لبنان بدوره تغير. أدوات الصراع وآليات النزاع تحولت نحو منعطفات أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً. حتى مفهوم الحروب الكلاسيكية والتقليدية لم يعد يطبق على العالم الذي شهد متغيرات كبيرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مروراً بالحرب الباردة، ووصولاً إلى الحقبة الراهنة. اللاعبون تغيروا. الدول لم تعد وحدها تحتكر ساحات الصراع المباشر أو بالواسطة، ولم تعد أيضاً تمتلك وحدها القدرة على إرساء أسس التعاون في حال رغبت في ذلك. كل مفاهيم العلاقات الدولية التي كانت سائدة وتدرّس في معاهد العلوم السياسية، باتت مختلفة تماماً.
ثمة لاعبون جدد باتوا يؤثرون بشكل كبير على الواقع القائم، هم الأجنحة والأذرع والميليشيات التي تطبق أجندات ترد إليها من خارج حدود دولها. والدول بالنسبة لها ليست هدفاً بحد ذاتها؛ تتعامل معها حصراً وفق ما يمليه عليها المشروع الأكبر من أهداف وخطط وطموحات.
لبنان ليس بعيداً عن هذه الإشكاليات التي صارت تعرّض صيغته التاريخية إلى الاهتزاز بشكل كبير وتجعله يؤول إلى السقوط. إذا كان الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي هو عنوان المرحلة، فثمة عناوين أخرى ممكن أن تفرض نفسها على الواقع في حال جرى تجاوز هذه الأزمة الصعبة، وهو ما يبدو صعباً للغاية في ظل الانقسامات العميقة التي تعكس نفسها شللاً وتعطيلاً في المؤسسات الدستورية، وقد أصبح التعطيل نهجاً في السنوات الماضية يمارسه الأقوياء في السلطة في حال لم تسر الأمور وفق رغباتهم وحساباتهم ومصالحهم الفئوية.
سقوط لبنان أخطر مما يمكن أن يتصوره البعض، وتداعياته أعمق مما يتخيله البعض. بسقوط هذا البلد؛ تسقط عناوين التعددية والتنوع والعيش المشترك، وتسقط معه سمات لطالما تميز بها؛ كالانفتاح والحريات والديمقراطية التي بقيت، رغم كل عثراتها وسقطاتها، تمثل هامشاً ومتنفساً ورئة لجميع المقهورين والمضطهدين والملاحقين بسبب رأيهم السياسي أو رؤيتهم التي قد تكون مغايرة للسائد وللمسار العام الذي يحدده الأقوياء ويتحول إلى حق حتى ولو كان نقيضه تماماً.
انهيار لبنان ينعكس على العرب جميعاً؛ تماماً كانعكاسه على اللبنانيين جميعاً. فطروحات المؤتمر التأسيسي التي تطل برأسها بين الفينة والأخرى؛ إنما ترمي لجس النبض حيال الصيغة الجديدة التي يجري تحضيرها للبنان، وهي ستكون حتماً صيغة مغايرة بالمطلق لواقعه الراهن ولا تتناسب مع تركيبته المرتكزة على التعددية. إنها صيغة الأحادية... صيغة قاتمة، ظلامية، سوداء، تكرّس الرأي الواحد والرؤية الواحدة، وتقصي الرأي الآخر المغاير والرؤية الأخرى المغايرة.
لبنان هو لبنان، من دون زيادة أو نقصان.