ستيفن ميهم
TT

كيف تبدل الأوبئة مسار التاريخ؟

عندما ظهر فيروس «كوفيد ـ 19» للمرة الأولى العام الماضي، كان الحدث التاريخي الموازي الذي أشار إليه الجميع جائحة الإنفلونزا عام 1918، لكن نظراً لأنَّ هذه الجائحة القديمة مرَّت بسرعة كبيرة، من الصعب العثور على دليل بأنَّها أحدثت إعادة توجيه هائل للحياة اليومية. في الواقع، نسيت غالبية الناس بعد تلاشيها ما حدث. في المقابل، هناك أوبئة عالمية بقيت لفترات أطول وتركت تأثيرات أكبر بكثير على المجتمع.
دعونا ننظر هنا إلى ما أعقب المرضين المزدوجين اللذين ضربا الإمبراطورية الرومانية: الطاعون الأنتوني الذي اشتعل ما بين عامي 165 و180. والطاعون القبرصي الذي ظهر عام 249 واستمر حتى ستينات القرن الثاني. ويعتقد أنَّ أحدهما على الأقل أو هما معا من أسلاف فيروس الجدري الحديث.
عندما ظهرت الجائحتان، كانت المسيحية ديانة هامشية. ويعتقد عالم الاجتماع والعالم الديني رودني ستارك أنَّ الاستجابة لتفشي الجائحة التي أظهرها أبناء هذه الطائفة الصغيرة، ساعدت في دفع المسيحية نحو الهيمنة، وسحقت في طريقها الديانات الوثنية الأقدم.
ويوضح ستارك أنَّه على النقيض من الوثنيين الذين فروا، استجاب المسيحيون للوباء بالانغماس في الأعمال الخيرية الدينية، وتولوا رعاية المرضى، من وثنيين ومسيحيين على حد سواء. وطرح المسيحيون رؤية قوية لدين أفضل من خلال التبشير في ذات الوقت الذي كانوا يقدمون فيه الرعاية للآخرين ـ من طعام وماء واحتياجات أساسية ـ والتي غالباً ما كانت تشكل الخط الفاصل بين الحياة والموت.
وتوحي الأبحاث التي أجراها ستارك أنَّ المسيحيين ـ خاصة السيدات الشابات في سن الحمل والولادة ـ عاشوا لسنوات أطول عن نظرائهم الوثنيين، إلى جانب أنَّهم أسهموا في دفع الكثير من الناجين نحو اعتناق المسيحية. وعندما تمعن النظر في حقيقة أن الديانات التي كانت تقرها الدولة تركت الناس يموتون، سيبدو جلياً أمامك السبب وراء الصعود الهائل للمسيحية خلال هذه الفترة.
وجاء الوباء الذي عرف باسم «الموت الأسود»، أو الطاعون الدبلي، ليقضي على ربع سكان أوروبا خلال القرن الثالث عشر، ما يجعله أحد أسوأ الأوبئة في التاريخ البشري. كما أطلق الوباء العنان لأعمال عنف مروعة ضد اليهود. وفرَّ الكثير من الناجين لما يعرف اليوم ببولندا وأجزاء أخرى من شرق أوروبا، الأمر الذي مهَّد الساحة أمام المرحلة التالية من الشتات اليهودي.
ورغم ذلك، تركت هذه الجائحة وراءها إرثاً إيجابياً كذلك. ومع أنَّ ثمة جدالاً لا يزال مشتعلاً في أوساط المؤرخين حول التأثير الذي تركته الجائحة على وجه الدقة، يظل المؤكد أنها تركت أوروبا الإقطاعية في مواجهة نقص خطير في الأيدي العاملة من الفلاحين، الأمر الذي عزز القوة التفاوضية للناجين. وترك ذلك بدوره تداعيات غير متوقعة، مع إقرار أول حد أدنى للأجور في أعقاب الجائحة، وكذلك ظهور تحديات أكثر أهمية بكثير في وجه النظام الاجتماعي.
وبعد قرابة عقد على ظهور الموجة الأولى من الطاعون الدبلي، اجتاحت الثورات الشعبية أوروبا. وخلصت دراسة أجراها في وقت قريب المؤرخ المتخصص في دراسة العصور الوسطى سامويل كوهين، إلى أنَّ تلك التوترات لم تكن جراء خروج أناس يحتجون على نقص الطعام أو ظروف العمل، وإنما كانت مطالب الناجين سياسية، وتستهدف القيود التي تفرضها حياة الإقطاع. وأضاف أنَّ الوباء بث ما وصفه بأنه «روح جديدة من الثقة في نفوس الفلاحين والحرفيين والعمال ودفعهم للإيمان بأنهم أيضاً قادرون على تغيير العالم».
في المقابل، جاءت موجات التفشي الأخيرة للأمراض أقل كارثية، ومع هذا تركت تداعيات مهمة هي الأخرى. ولننظر إلى الكوليرا، على سبيل المثال، المرض البكتيري الذي يهاجم الجهاز المعوي، وغالباً ما يقضي على الإنسان في غضون ساعات. رغم أنَّ جذوره تنتمي إلى الهند، فإنَّه ألحق الضرر الأكبر بالمدن الصناعية في الغرب، وازدهر داخل مياه الشرب التي كانت ملوثة بمياه الصرف الصحي.
في بادئ الأمر، لم يدرك مسؤولو الصحة العامة الصلة، وظنوا أنَّ الوباء ينتشر عبر الهواء من خلال «رائحة كريهة» غامضة. في لندن، التي شهدت بعض أسوأ موجات تفشي الكوليرا، دفعت الرائحة الكريهة لمياه الصرف الصحي باتجاه بناء نظام متطور للصرف الصحي للتخلص من الفضلات البشرية بالمدينة.
ومع اتضاح ملامح نظام الصرف الصحي الجديد، اكتشف الطبيب البريطاني جون سنو أنَّ الكوليرا جاءت من مياه الشرب الملوثة، الأمر الذي شكّل دفعة علمية لنظام الصرف الصحي الجديد. ومع اكتساب نظرية سنو المزيد والمزيد من المصداقية، أصبحت قنوات الصرف الصحي الحديثة عنصراً أساسياً في المعركة ضد المرض، وشرعت مدن بمختلف أرجاء العالم في التخلص من فضلاتها، بدلاً عن تركها تزحف نحو مياه الشرب.
وإذا كان الفضل يعود إلى الكوليرا وراء أنظمة الصرف الصحي والسباكة الحديثة، فإنَّ مرض السل هو الملهم وراء بناء «غرف الشمس» داخل المنازل السكنية عبر أرجاء الولايات المتحدة.
من ناحيتهم، وصف الأطباء «الاستشماس» كسبيل لـ«تطهير» الجسم. وعليه، بحث الأميركيون عن سبل لتعزيز تعرض أجسامهم للأشعة فوق البنفسجية. وفي تلك الفترة أيضاً بدأت سمرة الشمس تتحول إلى علامة على الصحة والجمال، وتحول الجلوس في الشمس إلى واحدة من الهوايات الشائعة.
وتكمن المفارقة في أن الاهتمام الجديد بالنظافة الشخصية والعامة ربما يشكل السبب وراء ظهور وباء آخر: شلل الأطفال. عندما بدأ هذا المرض في إصابة الأطفال بالإعاقة وقتل بعضهم في مطلع القرن العشرين، لاحظ الأطباء أمراً غريباً: الأطفال البيض الأثرياء عانوا عادة من أسوأ حالات الإصابة.
من بين النظريات التي طرحت في هذا المجال أنَّ الأطفال الذين يعيشون في بيئات أكثر فقراً (وقذارة) واجهوا فيروس شلل الأطفال، بينما لا يزالون يتمتعون بحماية الأجسام المضادة لأمهاتهم ـ وبالتالي عايشوا أهون حالات الإصابة. أما الأطفال الذين نشأوا داخل منازل شديدة النظافة والمصممة لحمايتهم من جراثيم مثل مرض السل، فعادة ما يجابهون فيروس شلل الأطفال في وقت لاحق من أعمارهم، يكونون قد فقدوا فيه المناعة التي حصلوا عليها من أمهاتهم.
ورغم أن هذه النظرية واجهت بعض التشكيك في السنوات الأخيرة، تظل الحقيقة أنَّها تسلط الضوء على إلى أي مدى من المتعذر التنبؤ واستيعاب تداعيات المواجهات التي ندخلها أمام الميكروبات.
فيما يخص فيروس «كوفيد ـ 19»، لا يزال من المبكر للغاية استيعاب كامل تداعياته. وإذا كنا محظوظين، فإننا في القرن الخامس والعشرين سنشير إلى معركتنا أمام «كوفيد ـ 19» لشرح سر الاختفاء المفاجئ للمصافحة بالأيدي، وظهور تقليد تلامس المرفقين بدلاً عنها ـ أو حقيقة دفع الفيروس لظهور عقيدة جديدة مبهمة تدعى «زوم».
وماذا لو لم يحالفنا الحظ؟ عليك النظر لما حدث للرومان.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»