عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ليس بالعِرق وحده يعاني الإنسان

هيجان أو فوران أو احتجاجات مناهضة العنصرية و«حياة السود تهمنا» وغيرها من شعارات سيّرت المظاهرات الصاخبة (من التيارات التي تحتج على أي شيء يمنحها مبرراً للتظاهر) اضطرت حكومة المحافظين إلى تشكيل لجنة للتحقيق والبحث فيما إذا كانت العنصرية في بريطانيا «منظمة تأسيسياً» أي جزء من نظام المؤسسة التقليدية بكل فروعها.
ولنشرح للقارئ تهمة «منظمة تأسيسياً»، فالتعبير يعني التفرقة السلبية في معاملة الأشخاص والمجموعات التي تعتبر من الأقليات (وهي تشمل المهاجرين وأبناءهم حتى من البيض كالآيرلنديين والأوروبيين مثلاً، والأديان والمذاهب الأخرى غير أتباع الكنيسة الأنغليكية).
المفارقة أن حساب المجموع العددي الشامل لهؤلاء الأقليات مجتمعين يكاد يساوي إن لم يفق ما يعتبر «الأغلبية البيضاء»، لكن من ناحية التعريفات القانونية والواقع فكل مجموعة تعتبر نفسها أقلية خاصة. فالمسلمون البريطانيون مجتمعين قرابة ثلاثة ملايين و400 ألف (كانوا مليونين ونصف مليون في إحصاء 2011 فزادوا بنسبة 55 في المائة في تسعة أعوام) من مجموع 76 مليوناً و880 ألفاً (عدد السكان 63 مليوناً و200 ألف نسمة في تعداد 2011 والزيادة بنسبة 7.4 في المائة في تسعة أعوام). أفراد هذه المجموعة، لا ينظرون إلى أنفسهم ككتلة واحدة أو طائفة محددة ويعترضون بشدة على وضعهم في سلة واحدة (إلا عند استغلالها لمكسب سياسي كاتهام الخصوم بالإسلاموفوبيا»، فيصبحون جسماً واحداً). وعقائدياً ينقسمون إلى سُنة (94 في المائة) وشيعة (5 في المائة) والباقي (1 في المائة) أغلبهم للطائفة الأحمدية. بالنسبة لانتماء مسلمي بريطانيا جغرافياً فهم سبع طوائف، فأصولهم من كل القارات؛ وعرقياً فهم بيض وآسيويون وأفارقة وأميركيون وإثنيات أخرى. وإذا كان التقسيم لغوياً فهناك أكثر من سبع عشرة لغة يرددونها في مساجدهم. مجرد نموذج لتعقيدات تعريف «الأقليات». الأمر كذلك ينطبق على الملونين سواء كانوا السود، وهم من ثلاث قارات، أو الآسيويين.
ما أثار حفيظة المعترضين أنهم اعتبروا التقرير إنكاراً للواقع، رغم أن المشرفين على التقرير أنفسهم من السود والملونين، واتهموا بأنهم عملاء أو مأجورون (وغيرها من التعبيرات المشابهة) يخدمون أجندة حكومة بوريس جونسون (لم يحدد أصحاب الاتهام هذه الأجندة) لتبرئتها من دم ابن الأقليات. التقرير في أكثر من 264 صفحة، بالطبع يعثر أي شخص على فقرة «تثبت» ادعاءه أو ما يعتقده، والمثال الذي نكرر استخدامه عبارة «لا تقربوا الصلاة...». أي الفقرة وحدها خارج السياق.
وبعكس ما تدعيه التيارات والجمعيات والمؤسسات (خاصة الصحافية وشبكات البث) المنتفعة من تعليق تهمة العنصرية كسيف ديموقليس فوق الرؤوس، لم ينف التقرير وجود العنصرية في المجتمع، ولم يجد أدلة أنها «منظمة تأسيسياً» أي أن الشخص يلقى معاملة غير مساوية كسياسة تلزمها اللوائح وتتبع داخل المؤسسات (كحال اتحاد جنوب أفريقيا قبل إلغاء العنصرية وكثير من الولايات الأميركية قبل قوانين الحقوق المدنية في الستينات).
بل إن العنصرية نتيجة تصرفات فردية وأغلبها غير مقصود وموجود في العقل الباطن للشخص الذي لا يدرك أنه يصدر أحكاماً لا شعورية على الآخرين المختلفين عنه. وبالنسبة للمؤسسات فقد اعتمدت لجنة إعداد التقرير على لقاءات مع الآلاف من الأفراد وعلى الإحصائيات.
فمثلاً من ناحية التعليم العالي والوظائف، وجد التقرير أن أبناء المهاجرين، خاصةً الآسيويين الملونين من الهنود والصينين ويليهم الأفارقة هم أكثر العرقيات نجاحاً بالنسبة العددية للمجموعة الإثنية، أما أقلهم فكان من البريطانيين البيض من السكان الأصليين خاصةً الطبقة العاملة. كما أن العِرق ليس عاملاً أساسياً في تباين التعليم والنجاحين المادي والوظيفي. فبالنسبة لتعليم البنات والتقدم النسائي الوظيفي تجد الإناث من أصول بنغلاديش مثلاً يحتللن مرتبة مرتفعة بنسبة تزيد على ثلاثة أرباع عددهن في مدن كلندن وأكسفورد (وهن نسبة ضئيلة فيها)، بينما تنخفض النسبة إلى 11 في المائة فقط بين المجموعة نفسها في مدن وسط إنجلترا كبرادفورد مثلاً، حيث 38 في المائة من السكان آسيويون أغلبيتهم مسلمون. وهنا لا يمكن أن يكون العامل العرقي وحده هو المسؤول عن بلوغ نسبة نجاح البنغلاديشيات في لندن سبعة أضعاف مثيلاتهن في برادفورد. ففي الأولى ستجد التعليم، والانفتاح النسبي على العالم والعرقيات الأخرى ووجود وسائل الثقافة المتعددة من مسرح وأوبرا وموسيقى ونشاطات ثقافية مقارنة أكثر اتساعاً بالانغلاق النسبي لمدينة كبرادفورد حيث البنات، حتى من يتلقين التعليم منهن، لا يزلن تحت سيطرة الأسرة وتقاليد أكثر تخلفاً من قرى بنغلاديش نفسها التي تقدمت كثيراً عن خمسينات وستينات القرن الماضي عندما هاجرت هذه الأسر إلى بريطانيا. كما أن القيود الاجتماعية في مناطق كبرادفورد تخضع لنفوذ رجال الدين (وأغلبهم لا يعرف الإنجليزية) والجيران والمجتمع ككل، بينما في لندن مثلاً تتعدد عرقيات الجيران والأسر أكثر استقلالاً وانفتاحاً.
باختصار ليس بالعِرق وحده يعاني الإنسان، وإنما هناك عوامل أخرى معقدة غير «الليلى» التي يغني إليها كل طرف.
فمن المسؤول إذن عن التعميم واتهام بريطانيا بأنها مجتمع عنصري المؤسسات؟
ربما يجيب البعض بأنها مسؤولية الجهات التي تؤثر في، وعلى، الرأي العام.
إحصائية المجلة المتخصصة المهتمة بشؤون الصحافة والصحافيين (باعتبارهم مسؤولين عن تشكيل الرأي العام) تلقي بالضوء حول ما يعتقد الصحافيون أنفسهم أنها عنصرية في مؤسساتهم.
اتضح أن 66 في المائة يرون مؤسسات الصحافة عنصرية (الرقم 64 في المائة في الرأي العام). تشريح الأرقام يشير إلى عنصر التجربة الشخصية (المهنية تشترط عدم الحكم من منظور شخصي).
النسبة بين الصحافيين البيض 62 في المائة ارتفعت بين الآسيويين إلى 81 في المائة و85 في المائة بين السود والأفارقة، و89 في المائة بين المختلطين (اي أبناء زيجات عرقيتين مختلفتين).
أما بالنسبة لنوعية الوسيلة الصحافية فأكثر الصحافيين الذين يتهمون بريطانيا بالعنصرية كانوا العاملين في بي بي سي (84 في المائة) وأخواتها كسكاي والقناة الرابعة (81 في المائة) يليهم صحافيو المجلات الأكاديمية (73 في المائة) والمراسلون الأجانب (70 في المائة) والمواقع أون لاين (69 في المائة) - أي أفراد طبقات ميسورة أقل احتكاكاً في حياتهم اليومية بالناس العاديين. وتبدأ النسبة في الانخفاض بقرب الصحافي من المواطنين: 60 في المائة للصحافة المحلية في المدن الصغرى، و52 في المائة للصحافة الشعبية التي توزع أضعاف الصحف الكبرى، و46 في المائة صحافيين متقاعدين.
أقل نسبة مشاركة في الإحصاء كانت صحافيي بي بي سي وأخواتها (4.3 في المائة)، فصحافة الأكاديميين (8 في المائة) تليها الصحافة القومية (13 في المائة) وأعلاها الصحافة المتخصصة في الاستهلاك والمبيعات (20 في المائة) حيث الإحصائيات العامة جزء من عملهم اليومي... وكل يغني على ليلاه.