جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

«كوفيد»: حسابُ الربحِ والخسارة

في يوم الثلاثاء الماضي، الموافق 23 مارس (آذار) الحالي، أحيت بريطانيا ذكرى مرور عام، بتمامه وبكماله، على اليوم الذي ظهر فيه رئيس حكومتها بوريس جونسون على شاشات التلفاز، ليعلن لمواطنيه، في كل مكان، بدء أول إغلاق عام. تجربة غير مسبوقة، تعني ببساطة، ضرورة الالتزام بالبقاء في البيوت، تفادياً لانتشار الوباء، وتقليلاً من حجم الخسائر في الأرواح. واستجاب لدعوته المواطنون بأريحية، وتحملوا بصبر ما مجموعه 195 يوماً من الإغلاق، مضافاً إليها تداعيات الحجْر، نفسياً واقتصادياً. ووفقاً لإحصائيات رسمية، كلف الوباء بريطانيا، حتى الآن، موت 126 ألف شخص، وبتكاليف مالية بقيمة 400 مليار جنيه إسترليني.
عام مضى، لكن الحرب ضد الفيروس لم تنتهِ بعد، حيث تؤكد الأخبار عن قرب بدء موجة ثالثة من هجماته، وما زلنا، حتى بعد اكتشاف أمصال واقية عديدة، وبدء حملات التطعيم في مختلف بلدان العالم، كمسافرين على متن مراكب تفصلها مسافات للوصول إلى شواطئ الأمان، والرسو أخيراً على مراسي السلامة. ليس من المجدي، على أي حال، البكاء على لبن مسكوب، كما يقول مثل شائع. والعام الذي انقضى بأيامه ولياليه، بمخاوفه وتوتراته وقلقه، والضحايا الذين فتك بهم الفيروس، كلها أمور لا تشجع على الالتفات للخلف، لأن لا شيء تركناه خلفنا معلقاً هناك، على درجات سلالم أيام العام المنقضي، يستحق منا الالتفات نحوه، باستثناء ما افتقدناه من مباهج حياتية اعتيادية، كنا نظن أن لا أحد بمستطاعه حرماننا منها. ومن المجدي لنا جميعاً، الآن، التركيز، إن أمكن، على مواصلة السير في الطريق الممتدة أمامنا، والحرص على تتبع علاماتها، على أمل الخروج من نفق، أُجبرنا على دخوله بقوة القانون، وتحملنا معاناة العيش في ضيقه وعتمته، طيلة عام.
الزمن الضائع، ممثلاً في عام كامل، اضطر خلاله الناس، في مختلف مدن العالم، إلى الهروب من خطر التعرض للإصابة بالوباء، وهجر الحياة، والاحتماء وراء صمت الجدران ووحشتها، بعيداً عن روتينهم، ومدارسهم، وأماكن عباداتهم، ومقرات أعمالهم، لن يعوضه لهم إلا فرح بنجاتهم من موت ظل متربصاً بهم كل يوم من أيامه. وما تبقى لدينا من صبر وقدرات على التحمل، رغم قلتها، ستكون كافية جداً، إلى أن يتحقق لنا المراد، ونتخلص مما كبلتنا به الحكومات من قيود وأصفاد. وتُرفع حالات الطوارئ، وتعود مياه نهر الحياة إلى ما هجرته من مجاريها، ونعود نحن إلى الركض مجدداً في طرقات وشوارع الدنيا، كما كنا نفعل. وهناك، عقب انقشاع الغيوم، يمكننا أن نستريح، ونفتح دفاتر حساباتنا، ونستغرق في تفاصيلها: ما ربحناه وكيف، وما خسرناه ولماذا؟
ربما يرى البعض منا أن النجاة من الإصابة بالفيروس واحتمال الموت، يعد ربحاً كبيراً، وبالتالي، فإن الإفلات من مخالب الموت، والاستمرار على قيد الحياة، لا يمكن أن يوضع على منضدة واحدة، وبالتساوي مع ما خسرناه، لأن الخسارة يمكن تعويضها. وقد يرى بعضنا الآخر رأياً مخالفاً، على اعتبار أن ليس كل ما خسرناه، خلال الأزمة الوبائية، يمكن تعويضه. كيف يمكن تعويض الأحباء والأصدقاء والأهل الذين اختطفهم منا الفيروس اللعين في غمضة عين؟
لكن مسألة الربح والخسارة لن تكتسب أهميتها، ما لم تسبقها عمليات مراجعة لما ارتكب من أخطاء عديدة من قبل الحكومات، وبعضها مكلف بشرياً ومالياً، ساهمت في انتشار الفيروس واستفحاله، وتفاقم ما أحدثه من إصابات. خلال المدة القليلة الماضية، بدأت عديد من الأصوات، في بريطانيا، ترتفع عبر وسائل الإعلام مطالبة بإجراء تحقيق كامل، منذ الآن، يشمل ما حدث من أخطاء ارتكبتها الحكومة في بداية الأزمة. وبالتأكيد، لن تجد تلك الأصوات حالياً أذاناً توليها إنصاتاً أو اهتماماً، لأن البلد ما زال خائضاً في أوحال الأزمة. بل وهناك العديد من المؤشرات على نية الحكومة في تمديد الإجراءات الاحترازية الوقائية حتى شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وعدم المخاطرة بما أُحرز حتى الآن من نجاحات ضد الوباء، خصوصاً مع تزايد المخاوف باحتمال نقص المخزون من الأمصال، وما سيؤدي إليه من إبطاء لحملة التطعيم، نتيجة اشتداد الخلاف بين بريطانيا ورئاسة الاتحاد الأوروبي، وسعي الأخيرة إلى التهديد بتجميد شحنات المصل المصنعة في أوروبا، وحظر تصديرها إلى بريطانيا. ومن وجهة نظر أخرى، هناك مشكلة سببها الوباء، وتتعلق بقضية حجْر الحريات الشخصية، ممثلة في القيود المفروضة من جانب الحكومات، وتزايد التململ، وتصاعد وتائر الغضب ضدها، في أوساط كثيرة، تتمدد منتشرة في مختلف بلدان أوروبا، وبتوجهات سياسية مختلفة، إلا أن أكثرها بروزاً وغضباً وعنفاً، يأتي من أوساط اليمين المتطرف. الليبراليون يرون أن الحكومات على اختلافها استغلتْ انتشار الوباء، لتفتكَ صلاحيات لم تكن تحلم بها من قبل، لتعزيز سلطاتها بسن مزيد من القوانين، على حساب انكماش في مساحات الحرية المكفولة دستورياً للمواطنين. المظاهرات العنيفة التي شهدتها مدينة بريستول البريطانية، خلال الأيام الماضية، ضد مشروع قانون بمنح الشرطة صلاحيات جديدة تمنع التظاهر السلمي، خير شاهد على طبيعة المعركة القادمة بين حكومات تتمدد سلطاتها، وشعوب ترفضُ المساسَ بحقوقها الدستورية.