رمزي عز الدين رمزي
سفير مصري ومسؤول أممي سابق
TT

هل تدعم أميركا وروسيا مبادرة عربية لسوريا؟

قبل عشر سنوات، انتفض الشعب السوري مطالباً بالحرية والكرامة الإنسانية، من دون أن يدرك أنَّه سيقع فريسة مثلث جهنمي من إجراءات أمنية قاسية وتدخلات خارجية وإرهاب.
في عام 2010 كانت سوريا من بين أفضل الدول أداءً في تحقيق أهداف الأمم المتحدة للألفية، ولكن تحت بريق هذا الأداء كانت هناك ظواهر سلبية تتفاعل تحت السطح في شكل سوء توزيع متزايد للدخل، وتفاقم الفجوة بين الريف والحضر، وانحسار المساحة المتاحة لممارسة الحريات السياسية.
أما الآن، فإنَّ سوريا أصبحت على وشك أن تكون دولة فاشلة؛ فالناتج المحلي الإجمالي لا يتعدى 40% من نظيره عام 2010، و3% من السكان ما بين موتى وجرحى، ونصف السكان إما لاجئون أو مشردون داخلياً.
الكل يتحمل مسؤولية هذه الكارثة. وعلى الرغم من أنَّ السوريين مسؤولون عن مصيرهم، فإنَّه يجب الإقرار بأنَّ المجتمع الدولي لم يقدم ما يكفي لإنقاذ الشعب السوري من هذا المصير المأساوي.
فحتى بعض أشقاء سوريا العرب لم يقوموا بكامل الدور في جهود التسوية السياسية، الأمر الذي أدَّى إلى خلق فراغ ملأته أطراف دولية وإقليمية أخرى، حصرت جهودها في تحقيق مصالحها الوطنية والاكتفاء بإدارة الأزمة. الحالة الوحيدة الذي اتَّخذ فيها العرب مبادرة مستقلة كانت إيفاد بعثة من المراقبين العسكريين لمراقبة وقف إطلاق النار في ديسمبر (كانون الأول) 2011، والتي تم سحبها بشكل مفاجئ بعد ثلاثة أسابيع فقط.
ومما لا شك فيه أنه بمجرد أن قررت الدول العربية في فبراير (شباط) 2012 التنازل عن دورها في قيادة عملية الوساطة لصالح الأمم المتحدة، من خلال إنشاء منصب مبعوث خاص مشترك لسوريا بين الجامعة العربية والأمم المتحدة، فإنها فقدت القدرة على القيام بدور مستقل.
ومن المسلَّم به أن نجاح جهود وساطة الأمم المتحدة يتطلب الدعم النشط من المجتمع الدولي الذي يجسّد فاعليته توافق مجلس الأمن. لكن للأسف هذا لم يحدث إلا خلال فترات وجيزة لم تسمح بالاستفادة من كامل إمكانيات وسطاء الأمم المتحدة. فخلال إحدى تلك الفترات، وبسبب توافق واشنطن وموسكو عام 2015 تم إصدار القرار 2254 الذي يوفر إطاراً عاماً للتسوية السياسية يتضمن: وقف إطلاق النار بالتوازي مع مفاوضات تؤدي إلى نظام حوكمة ودستور جديد يجري على أساسه انتخابات بإشراف الأمم المتحدة، على أن يتم ذلك في بيئة تتمتع بوقف إطلاق للنار مع التصدي لظاهرة الإرهاب، وتدفق المساعدات الإنسانية، والإفراج عن المحتجزين والمختطفين، وعودة اللاجئين وبدء عملية إعادة الإعمار. بيد أن تنفيذ القرار سرعان ما وقع ضحية للخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا.
ليس الغرض من هذا المقال تناول الفرصة التي ضاعت لعدم قدرة واشنطن وموسكو على الاتفاق على التنفيذ السريع للقرار، بل التركيز على دور الدول العربية في جهود التسوية السياسية. إذ كنتُ دائماً وما زلت من الداعين إلى موقف عربي فعّال من أجل تعزيز جهود الأمم المتحدة.
أما الآن، فهناك بارقة أمل تشير إلى مراجعة للمواقف العربية بشأن سوريا انعكست مؤخراً في تصريحات كل من وزيري خارجية مصر والإمارات، بالإضافة إلى انضمام قطر إلى منصة تضم كلاً من روسيا وتركيا تهدف إلى تدعيم جهود التسوية السياسية. وعلاوة على ذلك، فإن هناك إشارات إيجابية صادرة من أنقرة نحو تطبيع العلاقات مع البلدان العربية.
ولا شك أن تلك التطورات جديرة بالترحيب، لكنها بمفردها غير كافية. فالجمود الذي يخيّم على العملية السياسية يتطلب مبادرة عربية جريئة. وما يضيف إلى ضرورة التحرك السريع هو سعي الفرقاء السوريين إلى التمترس في مواقف لطالما حالت دون تحقيق تقدم في التسوية.
فمن جهة، تستعد دمشق لعقد انتخابات رئاسية في الصيف القادم على أساس الدستور الحالي، ومن جهة أخرى يسعى معارضو الحكومة السورية إلى نزع الشرعية عن هذه الانتخابات. وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال سيكون نتيجتها مزيداً من التعقيد أمام التسوية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما تفتقر إليه دوماً العملية السياسية هو: وجود حوافز جدية تدفع الحكومة السورية للتعاون بشكل أكثر جدية مع التنفيذ الكامل للقرار 2254 خصوصاً في ضوء اقتناعها بأن هدف القرار كان دوماً الإطاحة بالنظام وذلك من جهة، واستمرار الموقف الملتبس لداعمي المعارضة الدوليين بشأن تغيير النظام من جهة أخرى.
أما الآن وفي ضوء وجود شبه إجماع دولي يطالب بتغيير سلوك دمشق وليس تغيير النظام، فقد حان الوقت للنظر في مقاربة جديدة: اتّباع نهج شامل يتضمن أسلوب «جزرة وعصا» على حدٍّ سواء لتحفيز دمشق من جهة، والمعارضة من جهة أخرى على التعاون الكامل لتنفيذ القرار 2254. وهنا يجب التنويه إلى أهمية اتخاذ مثل هذه المبادرة في التوقيت الحالي الذي لا تزال إدارة الرئيس بايدن فيه بصدد صياغة سياستها بشأن سوريا، مع استبعاد قيام واشنطن وموسكو بجهد مشترك بسبب التوتر المتصاعد بين العاصمتين. وهنا تكمن أهمية طرح مبادرة عربية تدفع كلاً من الولايات المتحدة وروسيا بالتعامل بشكل سريع مع الأزمة السورية.
وفي رأيي يجب أن تتبع المبادرة العربية نهجاً شاملاً يستند إلى بلورة صفقة متكاملة تتضمن عدداً من العناصر المترابطة: إجراء الانتخابات الرئاسية بعد اتفاق اللجنة الدستورية على دستور جديد أو منقح، والتحضير لانتخابات حرة ونزيهة تجري تحت إشراف الأمم المتحدة، واتخاذ إجراءات متبادلة لبناء الثقة بين دمشق وخصومها المحليين والدوليين (بما في ذلك تدابير لمكافحة الإرهاب وإطلاق سراح المحتجزين والمختطفين وعودة اللاجئين والنازحين)، وعودة سوريا إلى الجامعة العربية وتطبيع علاقاتها الخارجية، ورفع العقوبات وتوفير التمويل لعملية الإعمار، مقابل أن تُجري دمشق الإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة لتهيئة بيئة آمنة ومأمونة للانتخابات التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وذلك على أن يتم تنفيذ تلك الخطة بشكل مترابط وتدريجي بالتعاون بين الحكومة السورية والمعارضة والأمم المتحدة وبدعم دولي.
وفي تقديري أن مثل هذه الخطة ستدفع الأطراف السورية ومؤيديها الدوليين، إلى إعادة النظر في مواقفها بما يفتح المجال لإجراء مفاوضات جادة للتنفيذ الكامل للقرار 2254.
وغنيٌّ عن القول إنه يصعب تجاهل الأطراف الإقليمية التي تلعب دوراً على الساحة السورية: إيران وتركيا وإسرائيل. فالدول الثلاث لديها القدرة على التدخل إذا رأت أن الأمور تتحرك في اتجاه لا يخدم مصالحها. ولكني على اقتناع من أنه إذا اتفقت كل من الولايات المتحدة وروسيا على تدعيم المبادرة العربية كوسيلة لدعم جهود الأمم المتحدة، فمن غير المرجح ألا تتمكن هذه البلدان الثلاثة من عرقلة التقدم نحو التسوية السياسية في سوريا.
وقد يرى البعض هذا الطرح طموحاً، إلا أنني أرى أن مأساة الشعب السوري تبرر قدراً من المجازفة. فإبقاء الوضع على ما هو عليه من شأنه استمرار ركود العملية السياسية وسيؤدي حتماً إلى تفاقم الأزمة، وسيستمر الشعب السوري في دفع ثمن تقاعس المجتمع الدولي.