الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

إردوغان يبحث عن أصدقاء

نادراً ما خرج زعيم سياسي أو رئيس دولة ليعلن أنه يبحث عن أصدقاء. الصداقات بين القادة تتم عادة عبر تلاقي مصالح الدول والاحترام المتبادل فيما بينها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل منها. والصداقات بين الأفراد شرطها كذلك هو حسن النوايا والود المتبادل واحترام مشاعر الآخرين.
أما عندما يصل الأمر برئيس دولة لإعلان البحث عن أصدقاء، مثلما فعل رجب طيب إردوغان في كلمته أمام مؤتمر حزبه، التي تحدث فيها أيضاً عن ضرورة إنهاء الخصومات، فإن ما يعنيه ذلك هو أن الرجل أخذ يشعر بالعزلة وتراجع عناوين الأصدقاء والحلفاء.
ما الذي دفع إردوغان رئيس إحدى أكبر دول المنطقة إلى السعي وراء أصدقاء، وكيف نشأت الخصومات التي يريد اليوم أن يتخلص منها؟ كانت لتركيا في السنوات الأولى من حكم إردوغان وفي السنوات الطويلة التي حكم فيها من سبقوه، علاقات متينة وطيبة واحترام متبادل مع دول المنطقة ومعظم دول العالم، كدولة مؤثرة ذات موقع استراتيجي مهم، وعضو أساسي في الحلف الأطلسي، فكيف تغير كل ذلك؟
خلال السنوات الماضية، لم تبقَ أزمة في المنطقة العربية لم تنغمس فيها تركيا وتتدخل في الصراعات الداخلية لدولها. لم تعد هناك خطوط واضحة للنقطة التي تقف عندها الحدود التركية. سواء تطلعت شرقاً باتجاه منطقة القوقاز، أو غرباً باتجاه اليونان وبحر إيجه، وصولاً إلى الشواطئ الليبية، أو جنوباً باتجاه سوريا ومصر.
مسألتان قادتا هذا التحرك التركي، الذي يصح أن يطلق عليه «التوسع» من دون مبالغة، هما أولاً أحلام رئيس تركيا باستعادة إرث الإمبراطورية العثمانية وحدودها إذا أمكن، وهي أحلام عبّر عنها في أكثر من مناسبة. والمسألة الثانية دور الإسلام السياسي في تكوين تفكير الرئيس التركي ونظرياته، وهو تفكير موروث عن أحزاب إسلامية تركية تنظر إلى الدور الذي يفترض أن تلعبه تركيا على أنه نقيض للدور الذي اختاره لها كمال أتاتورك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، مع نهاية الحرب العالمية الأولى ومشاركة العثمانيين في المحور الخاسر في تلك الحرب.
والحقيقة أنه من الصعب فصل المسألتين. ففي خلفية تفكير إردوغان وجماعات الإسلام السياسي سلوك «انتقامي» حيال من يعتبرونهم مسؤولين عن انهيار تلك الإمبراطورية، الذين يتم تحميلهم كذلك المسؤولية عن مواجهة تمدد الحركات الإسلامية وتهديدها لاستقرار أنظمة المنطقة وسيادة دولها.
وبقدر ما قامت الدولة التركية الحديثة على قاعدة تحويل نظرها إلى الداخل، واعتماد القومية التركية أساساً لها وبناء دولة عصرية تنظر إلى المستقبل والحداثة وتبتعد عن إرث الماضي، بدأ رجب طيب إردوغان حكمه على أسس مختلفة، بل نقيضة؛ أحلام الماضي هي التي تقود السياسة الحالية، سواء ما يتصل بالقرارات في الداخل أو بالنظرة إلى الدور التركي في الخارج، مع اعتبار أرفع للانتماء الديني على حساب القومية التركية.
نظرية إردوغان التي لا ترى ما يحول دون توسع النفوذ التركي خارج حدوده، كان لا بد أن تثير كثيراً من المشكلات والعداوات والصراعات مع دول في المنطقة، كانت تركيا في غنى عن إثارة هذه المشكلات معها. وبدلاً من سياسة «صفر مشكلات» التي كان يدعو لها رئيس الحكومة ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، صار عنوان سياسة إردوغان «صفر صداقات» أو ما يقرب من الصفر، إذا أردنا أن نستثني بعض من يوافقون إردوغان رأيه في شرعية اقتحام الدول لمصالح جيرانها والتدخل في شؤونها الداخلية، وبين هؤلاء من يقيمون في عدد من الدول العربية. وكان من الطبيعي أن تؤدي سياسة كهذه إلى خصومات مع الدول المتضررة من التدخل التركي، كما أدت إلى صراعات داخل تركيا نفسها، بين حزب إردوغان (العدالة والتنمية) ومعارضيه، وداخل هذا الحزب، مع الانشقاقات التي تكاثرت في صفوفه، وأبرزها خلاف إردوغان مع رفيقيه السابقين، الرئيس السابق عبد الله غُل وأحمد داود أوغلو.
لم يقتصر الأمر على خلافات إردوغان مع جيرانه، بل اتسع الأمر ليشمل علاقات تركيا مع دول أوروبية، أبرزها اليونان وفرنسا وألمانيا، مع انكفاء واضح في إمكان دخول تركيا النادي الأوروبي في ظل سياسات أكثر تشدداً حيال كثير من القضايا التي لا تتفق مع القيم التي يستند إليها مشروع الاتحاد الأوروبي.
لم تساعد سياسات إردوغان على حماية المصالح التركية كما يزعم. على العكس زادت التوترات مع اليونان في بحر إيجه من المشكلات التي تستعيد حساسيات الماضي من دون أن تفيد في النظر إلى المستقبل بين دولتين جارتين. وانعكس ذلك على تفاقم الانقسام في أزمة قبرص رغم المساعي الأوروبية والدولية لحلها.
وفي القوقاز كان للتدخل التركي إلى جانب أذربيجان في صراعها مع أرمينيا أثر كذلك على العلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على رغم أنه أحد الأصدقاء القلائل الباقين على لائحة إردوغان. ومثل ذلك الصراع، كان للتدخل التركي في الحرب السورية أثره أيضاً على العلاقة بين الصديقين اللدودين إردوغان وبوتين، بفعل تضارب المصالح والسعي إلى تقاسم النفوذ فيما تبقى من نظام بشار الأسد.
لا تملك تركيا الرفاهية لإدارة ظهرها للشرق أو الغرب، كما تقول اللغة الأخيرة لإردوغان. وعلى اللائحة الطويلة للدول التي يريد تحسين العلاقات معها؛ الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والعالم العربي.
إردوغان في نسخة جديدة إذن. لكن السؤال؛ هل يمكن الوثوق برغبة إردوغان في الإقدام على هذه الاستدارة الكبيرة في سياسته التي لن تنجح إلا إذا رافقها التزام بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والاهتمام بدلاً من ذلك بشؤون تركيا ومشكلاتها؟ وهل نحن أمام «مشروع إردوغاني» آخر يختلف عن الذي عرفناه في السنوات الماضية؟
يختصر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الجواب على هذا «الغزل» من جانب إردوغان ويقول؛ لا بد من مزيد من الوقت لنرى إذا كانت هذه الخطوات التركية دائمة وفاعلة في ضوء التوترات الداخلية التركية.
والأكيد أن كثيرين يشاركون المسؤول الأوروبي هذا الحذر بانتظار سلوك مختلف من جانب إردوغان يتجاوز عبارات الود.